والمراء من الكفار واستغربوه من أن تكون المحقرات من الأشياء مضروبا بها المثل، ليس بموضع للاستنكار والاستغراب، من جهة أن التمثيل إنما يصار إليه لما فيه من كشف المعنى ورفع الحجاب عن الغرض المطلوب، وإدناء المتوهم من المشاهد.. وأن لله- تعالى- أن يتمثل للأنداد وحقارة شأنها بما لا شيء أصغر منه وأقل، كما لو تمثل بالجزء الذي لا يتجزأ أو بما لا يدركه لتناهيه في صغره إلا هو وحده.. وقوله: فَما فَوْقَها فيه معنيان:
أحدهما: فما تجاوزها وزاد عليها في المعنى الذي ضربت فيه مثلا وهو القلة والحقارة نحو قولك لمن يقول: فلان أسفل الناس وأنذلهم، هو فوق ذلك، تريد هو أعرق فيما وصف من السفالة والنذالة.
والثاني: فيما زاد عليها في الحجم كأنه قصد بذلك رد ما استنكروه من ضرب المثل بالذباب والعنكبوت لأنهما أكبر من البعوضة «١» .
ثم بين- سبحانه- بعد ذلك موقف الناس أمام هذه الأمثال فقال:
فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ.
أما حرف مفيد للشرط والتفصيل والتأكيد، أما الشرط فلوقوع الفاء في جوابها، وأما التفصيل فلوقوعها بعد مجمل مذكور أو مقدر، وأما التأكيد فلأنك إذا قلت: زيد ذاهب، ثم قصدت تأكيد ذلك وإفادة أن ذهابه واقع لا محالة قلت: أما زيد فذاهب.
ولضمير في قوله (أنه) يعود على المثل، أو على ضربه المفهوم من قوله: أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا.
والحق: خلاف الباطن، وهو الثابت الذي لا يسوغ إنكاره.
ووجه كون المثل أو ضربه حقا، أنه يوضح المبهم، ويفصل المجمل، فهو وسيلة إلى تقرير الحقائق وبيانها.
ووجه تفصيل الناس في هذه الآية إلى قسمين، أنهم بالنسبة إلى التشريع والتنزيل كذلك، فهم مؤمن أو كافر.
والمقصود من ذكر المؤمنين هنا الثناء عليهم بثبات إيمانهم، وتيئيس الذين أرادوا تشكيكهم ببيان أن إيمانهم يحول بينهم وبين الشك.
وعبر في جانب المؤمنين بيعلمون تعريضا بأن الكافرين إنما قالوا ما قالوا عنادا ومكابرة، وأنهم يعلمون أن ذلك تمثيل أصاب المحز.
(١) تفسير الكشاف ج ١ ص ١١١ وما بعدها.