للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وفيما وراء مداولة الأيام بين الناس فقال- تعالى- وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ.

أى فعلنا ما فعلنا في أحد، واقتضت حكمتنا أن نداول الأيام بينكم وبين عدوكم، ليظهر أمركم- أيها المؤمنون-، وليتميز قوى الإيمان من ضعيفه.

فمعنى علم الله هو تحقق ما قدره في الأزل فيعلمه الناس، ويعلمه الله- تعالى- واقعا حاضرا، وذلك لأن العلم الغيبى لا يترتب عليه ثواب ولا عقاب، وإنما يترتبان على المعلوم إذا صار مشاهدا واقعا في الحس.

قال صاحب الكشاف: وقوله وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا فيه وجهان:

أحدهما: أن يكون المعلل محذوفا والمعنى: وليتميز الثابتون على الإيمان منكم من الذين على حرف فعلنا ذلك. وهو من باب التمثيل. بمعنى: فعلنا ذلك فعل من يريد أن يعلم من الثابت على الإيمان منكم من غير الثابت، وإلا فالله- عز وجل- لم يزل عالما بالأشياء قبل كونها.

والثاني: أنه تكون العلة محذوفة، وهذا عطف عليه والمعنى: وفعلنا ذلك ليكون كيت وليعلم الله. وإنما حذف للإيذان بأن المصلحة فيما فعل ليست بواحدة، ليسليهم عما جرى عليهم، وليبصرهم بأن العبد يسوؤه ما يجرى عليه من المصائب، ولا يشعر أن الله في ذلك من المصالح ما هو غافل عنه» «١» .

وقوله وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ بيان لحكمة أخرى لما أصاب المسلمين يوم أحد.

أى: وليكرم ناسا منكم بالشهادة ليكونوا مثالا لغيرهم في التضحية بالنفس من أجل إعلاء كلمة الله، والدفاع عن الحق. وهو- سبحانه- يحب الشهداء من عباده، ويرفعهم إلى أعلا الدرجات، وأسمى المنازل.

قال القرطبي ما ملخصه: قوله- تعالى- وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ أى يكرمكم بالشهادة، أى ليقتل قوم منكم فيكونوا شهداء على الناس بأعمالهم. وقيل: لهذا قيل شهيد.

وقيل: سمى شهيدا لأنه مشهود له بالجنة. وقيل: سمى شهيدا، لأن أرواحهم احتضرت دار السّلام لأنهم أحياء عند ربهم، فالشهيد بمعنى الشاهد أى الحاضر للجنة. والشهادة فضلها عظيم ويكفيك في فضلها قوله- تعالى- إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ ... الآية. وفي الحديث الشريف أن رجلا قال: يا رسول الله، ما بال المؤمنين يفتنون في قبورهم إلا الشهيد؟ فقال صلّى الله عليه وسلّم «كفى ببارقة السيوف على رأسه فتنة» «٢» .


(١) تفسير الكشاف ج ١ ص ٤٢٠.
(٢) تفسير القرطبي ج ٤ ص ٢١٨.

<<  <  ج: ص:  >  >>