يكون مظهرا من مظاهر التواضع والخضوع له تحية وتعظيما، وإقرارا له بالفضل دون وضع الجبهة على الأرض الذي هو عبادة، إذ عبادة غير الله شرك يتنزه الملائكة عنه.
وعلى هذا الرأى سار علماء أهل السنة. وقيل: إن السجود كان لله، وآدم إنما كان كالقبلة يتوجه إليه الساجدون تحية له، وإلى هذا الرأى اتجه علماء المعتزلة، وقد قالوا ذلك هربا من أن تكون الآية الكريمة حجة عليهم، فإن أهل السنة قالوا: إبليس من الملائكة، والصالحون من البشر أفضل من الملائكة، واحتجوا بسجود الملائكة لآدم، وخالفت المعتزلة في ذلك، وقالت:
الملائكة أفضل من البشر، وسجود الملائكة لآدم كان كالقبلة.
والذي نراه أن ما سار عليه أهل السنة أرجح، لأن ما ذهب إليه المعتزلة يبعده أن المقام مقام لإظهار فضل آدم على الملائكة، وإظهار فضله عليهم لا يتحقق بمجرد كونه قبلة للسجود.
وأمر الملائكة بالسجود لآدم هو لون من الابتلاء والاختبار، ليميز الله الخبيث من الطيب، وينفذ ما سبق به العلم، واقتضته المشيئة والحكمة:
ثم بين- سبحانه- ما حدث من الملائكة ومن إبليس فقال:
فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبى وَاسْتَكْبَرَ وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ.
إبليس: اسم مشتق من الإبلاس، وهو الحزن الناشئ عن شدة اليأس، وفعله أبلس، والراجح أنه اسم أعجمى، ومنعه من الصرف للعلمية والعجمة وهو كائن حي، وقد أخطأ من حمله على معنى داعي الشر الذي يخطر في النفوس، إذ ليس من المعقول أن يكون كذلك مع أن القرآن أخبرنا بأنه يرى الناس ولا يرونه. قال- تعالى- إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ.
وقوله: أَبى وَاسْتَكْبَرَ الإباء: الامتناع عن الفعل أنفة مع التمكن منه. والاستكبار:
التكبر والتعاظم والغرور، بمعنى أن يرى الشخص في نفسه علوا على غيره، وهو خلق مذموم.
وكان في قوله: وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ بمعنى صار.
وجاء العطف في قوله فَسَجَدُوا ... بالفاء المفيدة للتعقيب، للإشارة إلى أن الملائكة قد بادروا بالامتثال بدون تردد، ولم يصدهم ما كان في نفوسهم من التخوف من أن يكون هذا المخلوق، مظهر فساد وسفك دماء، لأنهم منزهون عن المعاصي.
وللعلماء في كون إبليس من الملائكة أم لا قولان:
أحدهما: أنه كان منهم لأنه- سبحانه- أمرهم بالسجود لآدم، ولولا أنه كان منهم لما توجه إليه الأمر بالسجود، ولو لم يتوجه إليه الأمر بالسجود لم يكن عاصيا، ولما استحق الخزي والنكال.