للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ثم بين- سبحانه- بعض الحكم من وراء ما حدث للمسلمين في أحد فقال: وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ ما فِي صُدُورِكُمْ، وَلِيُمَحِّصَ ما فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ.

والابتلاء: الاختبار، وهو هنا كناية عن أثره، وهو إظهاره للناس ليتميز قوى الإيمان من ضعيفه.

والتمحيص تخليص الشيء مما يخالطه مما فيه عيب له.

والجملة معطوفة على كلام سابق يفهم من السياق. والتقدير: نزل بكم ما نزل من الشدائد في أحد لتتعودوا تحمل الشدائد والمحن، وليعاملكم- سبحانه- معاملة المختبر لنفوسكم، فيظهر ما تنطوى عليه من خير أو شر، حتى يتبين الخبيث من الطيب وليخلص ما في قلوبكم ويزيل ما عساه يعلق بها من أدران، ويطهرها مما يخالطها من ظنون سيئة- فإن القلوب يخالطها بحكم العادة وتزيين الشيطان واستيلاء الغفلة وحب الشهوات. ما يضاد ما أودع الله فيها من إيمان وإسلام وبر وتقوى.

فلو تركت في عافية دائمة مستمرة لم تتخلص من هذه المخالطة، ولم تتمحص من الآثام فاقتضت حكمة الله- تعالى- أن ينزل بها من المحن والبلاء ما يكون بالنسبة لها كالدواء الكريمة لمن عرض له داء.

وقوله وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ أى عليم بأسرارها وضمائرها الخفية التي لا تفارقها فهو القائل إِنَّ اللَّهَ لا يَخْفى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ «١» وهو القائل وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفى «٢» .

ثم أخبر- سبحانه- عن الذين لم يثبتوا مع النبي صلّى الله عليه وسلّم يوم أحد، وبين السبب في ذلك وفتح لهم باب عفوه فقال: إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ، إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطانُ بِبَعْضِ ما كَسَبُوا. وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ.

وقوله تَوَلَّوْا من التولي ويستعمل هذا اللفظ بمعنى الإقبال وبمعنى الإدبار فإن كان متعديا بنفسه كان بمعنى الإقبال كما في قوله- تعالى- وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وإذا كان متعديا بعن أو غير متعد أصلا كان بمعنى الإعراض كما في الآية التي معنا.

والتولي الذي وقع فيه من ذكرهم الله- تعالى- في الآية التي معنا يتناول الرماة الذين تركوا أماكنهم التي أمرهم الرسول صلّى الله عليه وسلّم بالبقاء فيها لحماية ظهور المسلمين كما يتناول الذين لم يثبتوا


(١) سورة آل عمران الآية ٥. [.....]
(٢) سورة طه الآية ٧.

<<  <  ج: ص:  >  >>