الْحُكْمِ فِيهِ يَنْتَفِي الْقِيَاسُ؛ لِأَنَّ الْقِيَاسَ يَسْتَدْعِي مُسَاوَاةَ الْفَرْعِ لِلْأَصْلِ فِي الْمَعْنَى الَّذِي ثَبَتَ الْحُكْمُ بِهِ فِي الْأَصْلِ فَلَا جَرَمَ (إذَا ظَهَرَ الْمُسَاوَاةُ) بَيْنَهُمَا فِيهِ فَقَدْ ظَهَرَتْ فِي الْحُكْمِ أَيْضًا فَيَتَعَارَضَانِ لِاقْتِضَاءِ كُلٍّ غَيْرَ مَا يَقْتَضِيهِ الْآخَرُ ثُمَّ (قُدِّمَ) الْقِيَاسُ عَلَيْهِ اتِّفَاقًا (لِزِيَادَةِ قُوَّتِهِ) فَلَمْ يَلْزَمْ إبْطَالُ الْقِيَاسِ وَلَا نَفْيُ الْمَفْهُومِ (قَالُوا) أَيْ الْقَائِلُونَ بِمَفْهُومِ اللَّقَبِ: (لَوْ قَالَ لِمُخَاصِمِهِ: لَيْسَتْ أُمِّي زَانِيَةً أَفَادَ) قَوْلُهُ هَذَا (نِسْبَتَهُ) أَيْ الزِّنَا (إلَى أُمِّهِ) أَيْ الْمُخَاصِمِ وَلِذَا قَالَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ: يَجِبُ الْحَدُّ عَلَى الْقَائِلِ إذَا كَانَتْ عَفِيفَةً، وَلَوْلَا أَنَّ تَعْلِيقَ الْحُكْمِ بِالِاسْمِ يَدُلُّ عَلَى نَفْيِهِ عَمَّا عَدَاهُ لَمَا تَبَادَرَ إلَى الْفَهْمِ نِسْبَةُ الزِّنَا إلَيْهَا، وَلَمَا وَجَبَ الْحَدُّ عِنْدَهُمَا إذْ لَا مُوجِبَ لِلتَّبَادُرِ وَالْحَدِّ وَغَيْرِهِ.
(أُجِيبَ بِأَنَّهُ) أَيْ الْمُتَبَادِرَ الْمَذْكُورَ (بِقَرِينَةِ الْحَالِ) وَهِيَ الْخِصَامُ الَّذِي هُوَ مَظِنَّةُ الْأَذَى وَالتَّقْبِيحِ فِيمَا يُورَدُ فِيهِ غَالِبًا، وَلَيْسَ هَذَا مِنْ الْمَفْهُومِ الَّذِي يَكُونُ اللَّفْظُ ظَاهِرًا فِيهِ لُغَةً بِشَيْءٍ، وَإِنَّمَا لَمْ يُحَدَّ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ؛ لِأَنَّ مُفِيدَ نِسْبَةِ الزِّنَا إلَيْهَا لَيْسَ بِقَطْعِيٍّ فَكَانَ فِي ثُبُوتِهَا شُبْهَةٌ يَنْدَرِئُ الْحَدُّ بِمِثْلِهَا ثُمَّ لَمَّا مَضَى عُدَّ دَلَالَةُ إنَّمَا عَلَى الْحَصْرِ مِنْ مَفْهُومِ الْمُخَالَفَةِ وَكَانَ الظَّاهِرُ خِلَافَهُ تَرْجَمَ بَيَانَهُ بِمَسْأَلَةٍ جَعَلَ مَوْضُوعَهَا أَحَدَ جُزْأَيْ مَعْنَى الْحَصْرِ وَهُوَ النَّفْيُ عَنْ غَيْرِ الْمَذْكُورِ؛ لِأَنَّ الْجُزْءَ الْآخَرَ الَّذِي هُوَ الْإِثْبَاتُ لِلْمَذْكُورِ لَا خِلَافَ فِي أَنَّ دَلَالَتَهَا عَلَيْهِ مَنْطُوقًا فَقَالَ
(مَسْأَلَةٌ النَّفْيُ فِي الْحَصْرِ بِإِنَّمَا لِغَيْرِ الْآخَرِ) أَيْ نَفْيُ الْحُكْمِ الثَّابِتِ لِلْمَحْصُورِ فِيهِ وَهُوَ مَا يُذْكَرُ آخِرًا عَنْ غَيْرِهِ بِإِنَّمَا (قِيلَ بِالْمَفْهُومِ) قَالَهُ أَبُو إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيُّ فِي جَمَاعَةٍ (وَقِيلَ بِالْمَنْطُوقِ) قَالَهُ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ وَالْغَزَالِيُّ، قَالَ الْمُصَنِّفُ (وَهُوَ الْأَرْجَحُ وَنَسَبَ لِلْحَنَفِيَّةِ عَدَمَهُ) أَيْ النَّفْيِ عَنْ غَيْرِ الْمَحْصُورِ فِيهِ وَأَنَّهَا تُفِيدُ الْإِثْبَاتَ لَا غَيْرُ.
(فَإِنَّمَا زَيْدٌ قَائِمٌ كَأَنَّهُ قَائِمٌ) فِي عَدَمِ دَلَالَتِهِ عَلَى نَفْيِ غَيْرِ الْقِيَامِ عَنْ زَيْدٍ إذْ مِنْ الظَّاهِرِ أَنَّ فِي: إنَّمَا زَيْدٌ قَائِمٌ مِنْ التَّأْكِيدِ مَا يَزِيدُ عَلَى: إنَّ زَيْدًا قَائِمٌ ثُمَّ هَذَا مُخْتَارُ الْآمِدِيِّ وَأَبِي حَيَّانَ وَنَسَبَهُ إلَى النَّحْوِيِّينَ الْبَصْرِيِّينَ وَنَسَبَهُ إلَى الْحَنَفِيَّةِ صَاحِبُ الْبَدِيعِ وَتَعَقَّبَهُ الْمُصَنِّفُ بِقَوْلِهِ (وَتَكَرَّرَ مِنْهُمْ) أَيْ الْحَنِيفَةِ (نِسْبَتُهُ) أَيْ الْحَصْرِ إلَى إنَّمَا مَعْنَى لَهَا كَمَا فِي كَشْفِ الْأَسْرَارِ وَالْكَافِي وَجَامِعِ الْأَسْرَارِ وَغَيْرِهَا (وَأَيْضًا لَمْ يُجِبْ أَحَدٌ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ بِمَنْعِ إفَادَتِهَا) أَيْ إنَّمَا الْحَصْرَ (فِي الِاسْتِدْلَالِ «بِإِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ» الثَّابِتِ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (عَلَى شَرْطِ النِّيَّةِ فِي الْوُضُوءِ) بِمَا مُلَخَّصُهُ: الْوُضُوءُ عَمَلٌ، وَلَا عَمَلَ إلَّا بِالنِّيَّةِ فَلَا وُضُوءَ إلَّا بِالنِّيَّةِ أَمَّا الصُّغْرَى فَظَاهِرَةٌ، وَأَمَّا الْكُبْرَى فَلِلْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ (بَلْ بِتَقْدِيرِ الْكَمَالِ أَوْ الصِّحَّةِ) أَيْ بَلْ إنَّمَا أَجَابُوا بِمَا حَاصِلُهُ أَنَّ حَقِيقَةَ عُمُومِ الْأَعْمَالِ غَيْرُ مُرَادَةٍ لِلْقَطْعِ بِوُجُودِ بَعْضِهَا بِلَا نِيَّةٍ كَعَمَلِ السَّاهِي فَالْمُرَادُ حُكْمُهَا، وَهُوَ إمَّا أُخْرَوِيٌّ وَهُوَ الثَّوَابُ وَالْعِقَابُ وَيُعَبَّرُ عَنْهُ بِالْكَمَالِ، أَوْ دُنْيَوِيٌّ، وَهُوَ الِاعْتِبَارُ الشَّرْعِيُّ وَيُعَبَّرُ عَنْهُ بِالصِّحَّةِ وَالْأُخْرَوِيُّ مُرَادٌ اتِّفَاقًا فَلَا يَجُوزُ إرَادَةُ الدُّنْيَوِيِّ مَعَهُ أَيْضًا إمَّا؛ لِأَنَّ ثُبُوتَهُ بِالِاقْتِضَاءِ وَالْمُقْتَضَى لَا عُمُومَ لَهُ.
وَهَذَا طَرِيقُ الْقَاضِي أَبِي زَيْدٍ وَمَنْ وَافَقَهُ، وَإِمَّا لِأَنَّ اللَّفْظَ صَارَ مَجَازًا عَنْ نَوْعَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ لِوُجُودِ الصِّحَّةِ، وَلَا ثَوَابَ وَالْفَسَادِ، وَلَا عِقَابَ فَيَكُونُ مُشْتَرَكًا بَيْنَهُمَا بِالْوَضْعِ النَّوْعِيِّ، وَالْمُشْتَرَكُ لَا عُمُومَ لَهُ، وَهَذَا طَرِيقُ شَمْسِ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيِّ وَفَخْرِ الْإِسْلَامِ وَأَخِيهِ وَمَنْ تَابَعَهُمْ فَلَا يَصِحُّ التَّشَبُّثُ بِالْحَدِيثِ عَلَى اشْتِرَاطِ النِّيَّةِ فِي الْوُضُوءِ ثُمَّ لَمَّا كَانَ يُطْرَقُ هَذَا الْجَوَابُ مُنِعَ كَوْنُ الثَّوَابِ مُرَادًا اتِّفَاقًا، وَإِنْ اُتُّفِقَ عَلَى عَدَمِ الثَّوَابِ بِدُونِ النِّيَّةِ؛ لِأَنَّ مُوَافَقَةَ الْحُكْمِ لِلدَّلِيلِ لَا تَقْتَضِي إرَادَتَهُ وَثُبُوتَهُ بِهِ لِيَلْزَمَ عُمُومُ الْمُقْتَضَى أَوْ الْمُشْتَرَكِ، وَأَيْضًا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْحُكْمَ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ النَّوْعَيْنِ اشْتِرَاكًا لَفْظِيًّا بَلْ هُوَ مَوْضُوعٌ لِأَثَرِ الشَّيْءِ وَلَازِمِهِ فَيَعُمُّ الْجَوَازَ وَالْفَسَادَ وَالثَّوَابَ وَالْإِثْمَ كَمَا يَعُمُّ الْحَيَوَانُ الْفَرَسَ وَالْإِنْسَانَ، فَإِرَادَةُ النَّوْعَيْنِ لَا تَكُونُ مِنْ عُمُومِ الْمُشْتَرَكِ، وَكَانَ الْتِزَامُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْأَعْمَالِ صِحَّتُهَا - كَمَا قَالَهُ الْمُخَالِفُ - هُوَ الْوَجْهَ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْهُ ضَرَرٌ فِي مَطْلُوبِ الْحَنَفِيَّةِ تَمَّمَهُ الْمُصَنِّفُ عَلَى هَذَا الطَّرِيقِ فَقَالَ: (وَهُوَ) أَيْ تَقْدِيرُ الصِّحَّةِ (الْحَقُّ) ؛ لِأَنَّهُ الْمَجَازُ الْأَقْرَبُ إلَى الْحَقِيقَةِ مِنْ الْكَمَالِ إلَيْهَا وَلَمْ يَقُمْ مَا يُقَدِّمُهُ عَلَيْهِ فَيَتَعَيَّنُ.
وَإِنَّمَا
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute