قُلْنَا: لَا يَضُرُّهُمْ لِأَنَّ الْإِجْمَاعَ عَلَى أَنَّ الْأَعْمَالَ فِي الْحَدِيثِ مَخْصُوصَةٌ بِمَا لَيْسَ بِعِبَادَةٍ فَاللَّازِمُ مِنْ الِاسْتِدْلَالِ بِهِ لَا يَصِحُّ الْوُضُوءُ عِبَادَةً إلَّا بِالنِّيَّةِ حَتَّى كَانَ الشَّافِعِيُّ يَقُولُ: الْوُضُوءُ عِبَادَةٌ، وَكُلُّ عِبَادَةٍ لَا تَصِحُّ إلَّا بِالنِّيَّةِ فَالْوُضُوءُ لَا يَصِحُّ إلَّا بِالنِّيَّةِ وَحِينَئِذٍ فَلِلْحَنَفِيَّةِ أَنْ يَقُولُوا إنْ كَانَ الْمُرَادُ: كُلُّ وُضُوءٍ عِبَادَةٌ فَلَا نُسَلِّمُهَا، أَوْ بَعْضُ الْوُضُوءِ عِبَادَةٌ فَنُسَلِّمُهَا، وَنَقُولُ: (وَلَا يَصِحُّ الْوُضُوءُ عِبَادَةٌ إلَّا بِالنِّيَّةِ لَكِنْ مَنَعُوا تَوَقُّفَ صِحَّةِ الصَّلَاةِ عَلَى وُضُوءٍ هُوَ عِبَادَةٌ كَبَاقِي الشُّرُوطِ) فَيَسْلُكُونَ فِي الْجَوَابِ الْقَوْلَ بِالْمُوجِبِ وَلِلْعَبْدِ الضَّعِيفِ فِي هَذَا الْمَقَامِ بَحْثٌ ذَكَرْته فِي حَلَبَةِ الْمُجَلِّي فَعَدَمُ مَنْعِهِمْ كَوْنَ إنَّمَا تُفِيدُ الْحَصْرَ فِي الْحَدِيثِ دَلِيلٌ ظَاهِرٌ عَلَى قَوْلِهِمْ بِإِفَادَتِهَا ذَلِكَ قُلْت لَكِنْ لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ إنَّمَا يَتِمُّ هَذَا أَنَّهُ لَوْ كَانَ مَطْلُوبُ الْمُخَالِفِ يَتَوَقَّفُ عَلَى ثُبُوتِ ذَلِكَ لَهَا وَلَيْسَ كَذَلِكَ لِانْتِهَاضِ تَعْرِيفِ الْأَعْمَالِ بِهِ، فَإِنَّ أَدَاةَ التَّعْرِيفِ فِيهَا لِلْعُمُومِ لِعَدَمِ الْعَهْدِ، وَعَلَيْهِ مَشَى ابْنُ الْحَاجِبِ فِي الْجَوَابِ عَنْ الِاحْتِجَاجِ بِهَذَا الْحَدِيثِ عَلَى إفَادَةِ إنَّمَا لِلْحَصْرِ حَيْثُ قَالَ فِي الْمُنْتَهَى: وَأَمَّا «إنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ» «وَإِنَّمَا الْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ» فَالْحَصْرُ بِغَيْرِ إنَّمَا لِمَا فِيهِ مِنْ الْعُمُومِ.
وَمِنْ ثَمَّةَ اسْتَدَلَّ صَاحِبُ الْهِدَايَةِ عَلَى افْتِرَاضِ النِّيَّةِ فِي الصَّلَاةِ بِالْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ بِدُونِ إنَّمَا كَمَا هُوَ رِوَايَةٌ ثَابِتَةٌ رَوَاهَا الْإِمَامُ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَغَيْرُهُ وَحِينَئِذٍ فَقَدْ كَانَ الْأَوْلَى تَرْكَ هَذِهِ الْعِلَاوَةِ نَعَمْ فِي كَشْفِ الْأَسْرَارِ وَجَامِعِ الْأَسْرَارِ التَّصْرِيحُ بِكَوْنِهَا فِي الْحَدِيثِ مُفِيدَةً لِذَلِكَ (لَنَا) عَلَى إنَّمَا لِلْحَصْرِ، وَأَنَّهَا لِلنَّفْيِ عَنْ غَيْرِ الْآخِرِ مَنْطُوقًا أَنَّهُ (يُفْهَمُ مِنْهُ) أَيْ إنَّمَا (الْمَجْمُوعُ) مِنْ الْإِثْبَاتِ وَالنَّفْيِ كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ مُتَبَادِرٌ مِنْ مَوَارِدَ لَا تُحْصَى كَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: {إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ} [طه: ٩٨] (فَكَانَ) إنَّمَا لَفْظًا مَوْضُوعًا (لَهُ) أَيْ لِلْمَجْمُوعِ كَمَا صَرَّحَ بِهِ عُلَمَاءُ الْمَعَانِي لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الْفَهْمِ تَبَعُهُ لِلْوَضْعِ ثُمَّ كَمَا أَنَّهُ لِلْإِثْبَاتِ مَنْطُوقًا فَلِلنَّفْيِ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْمَجْمُوعَ مَعْنًى وَاحِدٌ مُطَابِقِيٌّ لَهَا فَلَا تَكُونُ دَلَالَتُهُ عَلَى النَّفْيِ مَفْهُومًا؛ لِأَنَّ اللَّفْظَ يَدُلُّ عَلَى كُلٍّ مِنْ جُزْأَيْ مَعْنَاهُ تَضَمُّنًا مِنْ جِهَةٍ وَاحِدَةٍ فَإِنَّهُ قِيلَ: كَيْفَ يُفِيدُ النَّفْيَ مَنْطُوقًا، وَأَدَاتُهُ الْمَعْهُودُ إفَادَتُهَا إيَّاهُ كَذَلِكَ غَيْرُ مَوْجُودَةٍ فَالْجَوَابُ أَنَّ ذَلِكَ غَيْرُ مُمْتَنِعٍ
(وَكَوْنُ النَّافِي الْمَعْهُودِ) لِإِفَادَةِ النَّفْيِ مَنْطُوقًا كَمًّا وَلَا (مُنْتَفِيًا لَا يَسْتَلْزِمُ نَفْيَهُ) أَيْ كَوْنُهَا دَالَّةً عَلَى نَفْيِ الْحُكْمِ عَنْ غَيْرِ الْآخِرِ مَنْطُوقًا (لِأَنَّ مُوجِبَ الِانْتِقَالِ) أَيْ انْتِقَالِ الْفَهْمِ مِنْ النَّافِي إلَى مَعْنَاهُ الَّذِي هُوَ النَّفْيُ مَنْطُوقًا هُوَ (الْوَضْعُ) أَيْ وَضْعُ اللَّفْظِ لَهُ، وَالْمَعْلُومُ ذَلِكَ لِلْفَاهِمِ بِقَرِينَةِ التَّبَادُرِ (لَا بِشَرْطِ لَفْظٍ خَاصٍّ) حَتَّى إذَا لَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ الْمَعْنَى، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ، فَكَمَا جَازَ أَنْ يُفِيدَهُ أَدَاةٌ مَخْصُوصَةٌ لِوَضْعِهَا لَهُ خَاصَّةً جَازَ أَنْ يُفِيدَهُ غَيْرُهَا لِوَضْعِهِ لَهُ وَلِغَيْرِهِ مَعًا، وَكَمَا كَانَ الْفَهْمُ عَلَى ذَاكَ الْوَجْهِ دَلِيلَ الْوَضْعِ لَهُ فَكَذَا يَكُونُ الْفَهْمُ هُنَا عَلَى هَذَا الْوَجْهِ دَلِيلَ الْوَضْعِ لَهُمَا كَذَلِكَ، وَلَا يُقَالُ: هَذَا لَا يَكْفِي لِلْمَطْلُوبِ لِأَنَّ غَايَةَ مَا يُفِيدُ أَنَّهُ يُفْهَمُ مِنْ إنَّمَا النَّفْيُ عَنْ الْغَيْرِ وَلَا يَلْزَمُ مِنْهُ أَنْ يَكُونَ لِوَضْعِ اللَّفْظِ لَهُ بِالذَّاتِ لِيَكُونَ مُسْتَفَادًا مِنْهُ مَنْطُوقًا بَلْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لِوَضْعِهِ لَهُ فِي الْجُمْلَةِ فَيَكُونُ مُسْتَفَادًا مِنْهُ مَفْهُومًا وَمَعَ الِاحْتِمَالِ يَسْقُطُ الِاسْتِدْلَال؛ لِأَنَّا نَقُولُ: مَا قَدَّمْنَاهُ ظَاهِرٌ فِي أَنَّهُ مَنْطُوقٌ (وَكَوْنُ فَهْمِهِ) أَيْ النَّفْيِ مِنْهُ (لَا يَسْتَلْزِمُهُ) أَيْ كَوْنُهُ بِالْمَنْطُوقِ (لِجَوَازِهِ) أَيْ فَهْمِهِ (بِالْمَفْهُومِ لَا يَنْفِي الظُّهُورَ) ، وَنَحْنُ إنَّمَا نَقُولُ هُوَ ظَاهِرٌ فِي ذَلِكَ ثُمَّ كَيْفَ يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ بِالْمَفْهُومِ.
(وَلَوْ ثَبَتَ) كَوْنُهُ كَذَلِكَ (كَانَ بِمَفْهُومِ اللَّقَبِ) لِصِدْقِهِ عَلَيْهِ حِينَئِذٍ (وَهُوَ) أَيْ مَفْهُومِ اللَّقَبِ (مَنْفِيٌّ) اتِّفَاقًا أَوْ إلْزَامًا فَلَا يَصِحُّ لِلْقَائِلِينَ بِأَنَّهُ بِطَرِيقِ الْمَفْهُومِ الْقَوْلُ بِثُبُوتِهِ حِينَئِذٍ أَصْلًا، فَإِنْ قُلْت: مِثْلُ جَوَازِ إنَّمَا زَيْدٌ قَائِمٌ لَا قَاعِدٌ بِخِلَافِ مَا زَيْدٌ إلَّا قَائِمٌ لَا قَاعِدٌ، وَمِثْلُ: إنَّ صَرِيحَ النَّفْيِ وَالِاسْتِثْنَاءِ يُسْتَعْمَلُ عِنْدَ إصْرَارِ الْمُخَاطَبِ عَلَى الْإِنْكَارِ بِخِلَافِ إنَّمَا مِنْ الْأَمَارَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّهُ مَفْهُومٌ لَا مَنْطُوقٌ كَمَا ذَكَرَهُ الْمُحَقِّقُ التَّفْتَازَانِيُّ قُلْت: الَّذِي صَرَّحَ بِهِ الشَّيْخُ عَبْدُ الْقَاهِرِ وَقَالَ الْمُتَأَخِّرُونَ: إنَّهُ الْأَقْرَبُ نَفْيُ حُسْنِ مُجَامَعَةِ لَا الْعَاطِفَةِ لِلنَّفْيِ وَالِاسْتِثْنَاءِ لَا نَفْيِ الصِّحَّةِ، وَتَصْرِيحُ الْمِفْتَاحِ بِعَدَمِ الصِّحَّةِ مُتَعَقَّبٌ كَمَا قَالَ الْإِمَامُ الطِّيبِيُّ بِأَنَّهُ إنْ كَانَ دَعْوَى مُسْتَنَدِهِ إلَى الْوَضْعِ فَلَا بُدَّ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute