للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الْفِقْهُ مِنْ بَابِ الظُّنُونِ يَعْنِي فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُؤْخَذَ الْعِلْمُ جِنْسَ تَعْرِيفِهِ أَجَابَ بِمَا حَاصِلُهُ مَشْرُوحًا أَنَّ الْمُرَادَ بِالْعِلْمِ بِالْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ الْعِلْمُ بِوُجُوبِ الْعِلْمِ بِهَا عَنْ ظَنِّ الْمُجْتَهِدِ ثُبُوتِ ذَلِكَ الْحُكْمِ، وَهَذَا أَمْرٌ قَطْعِيٌّ؛ لِأَنَّهُ ثَابِتٌ بِدَلِيلٍ قَطْعِيٍّ، وَهَذَا الْحُكْمُ مَظْنُونُ الْمُجْتَهِدِ قَطْعًا وَكُلُّ مَظْنُونٍ لِلْمُجْتَهِدِ قَطْعًا يَجِبُ الْعَمَلُ بِهِ قَطْعًا أَمَّا كَوْنُ الصُّغْرَى قَطْعِيَّةً فَظَاهِرٌ؛ لِأَنَّ ثُبُوتَ ظَنِّ الْحُكْمِ لَهُ وِجْدَانِيٌّ وَالْإِنْسَانُ يَقْطَعُ بِوُجُودِ ظَنِّهِ كَمَا يَقْطَعُ بِوُجُودِ جُوعِهِ وَعَطَشِهِ، وَأَمَّا كَوْنُ الْكُبْرَى قَطْعِيَّةٌ فَقَالُوا لِلدَّلِيلِ الْقَاطِعِ عَلَى وُجُوبِ اتِّبَاعِ الظَّنِّ ثُمَّ لَمْ يُعَيِّنْهُ صَاحِبُ الْمَحْصُولِ وَلَا مُخْتَصِرُوهُ، وَعَيَّنَهُ غَيْرُهُمْ عَلَى اخْتِلَافٍ بَيْنَهُمْ فِي تَعْيِينِهِ، وَأَحْسَنُ مَا قِيلَ فِيهِ أَنَّهُ الْإِجْمَاعُ كَمَا نَقَلَهُ الشَّافِعِيُّ فِي رِسَالَتِهِ ثُمَّ الْغَزَالِيُّ فِي مُسْتَصْفَاهُ وَاعْتُرِضَ بِأَنَّهُ لَا يُفِيدُ الْقَطْعَ وَدَفَعَ بِأَنَّهُ خِلَافُ الْمُخْتَارِ نَعَمْ يُشْتَرَطُ فِي قَطْعِيَّتِهِ أَنْ لَا يَكُونَ سُكُوتِيًّا كَمَا هُوَ قَوْلُ قَوْمٍ مِنْ الْعُلَمَاءِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا كَذَلِكَ فَإِنَّ الشَّافِعِيَّ عَلَى مَا نُقِلَ عَنْهُ أَنَّهُ لَا يَرَى حُجِّيَّةَ السُّكُوتِيِّ فَضْلًا عَنْ كَوْنِهِ قَاطِعًا، وَقَدْ نَقَلَهُ فِي مَعْرِضِ الِاسْتِدْلَالِ، وَأَنْ يَكُونَ مُتَوَاتِرًا، وَالِاسْتِقْرَاءُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَذَلِكَ حَتَّى زَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّ هَذَا الْحُكْمَ الثَّابِتَ بِهِ مِنْ ضَرُورِيَّاتِ الدِّينِ وَحَيْثُ كَانَتْ هَاتَانِ الْمُقَدِّمَتَانِ قَطْعِيَّتَيْنِ فَالْمَطْلُوبُ، وَهُوَ فَهَذَا الْحُكْمُ يَجِبُ الْعَمَلُ بِهِ قَطْعًا قَطْعِيٌّ غَيْرَ أَنَّهُ وَقَعَ الظَّنُّ فِي طَرِيقِهِ كَمَا رَأَيْت مِنْ التَّصْرِيحِ بِهِ مَحْمُولًا فِي الصُّغْرَى مَوْضُوعًا فِي الْكُبْرَى وَذَلِكَ غَيْرُ مُوجِبٍ لِظَنِّيَّةِ الْمُقَدِّمَةِ؛ لِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي كَوْنِ الْمُقَدِّمَةِ قَطْعِيَّةً أَوْ ظَنِّيَّةً مَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ مِنْ الْحُكْمِ فَإِنْ ظَنِّيًّا فَظَنِّيَّةٌ، وَإِنْ قَطِيعًا فَقَطْعِيَّةٌ، سَوَاءٌ كَانَ الطَّرَفَانِ ظَنِّيَّيْنِ فِي نَفْسِهِمَا أَوْ قَطْعِيَّيْنِ أَوْ أَحَدُهُمَا ظَنِّيًّا وَالْآخَرُ قَطْعِيًّا، وَقَدْ عَلِمْت هُنَا قَطْعِيَّةَ كُلٍّ مِنْ الْحُكْمَيْنِ اللَّذَيْنِ اشْتَمَلَ عَلَيْهِمَا الْمُقَدِّمَتَانِ الْمَذْكُورَتَانِ.

وَإِذَا كَانَ هَذَا هُوَ الْمُرَادَ مِنْ التَّعْرِيفِ الْمَذْكُورِ فَيَلْزَمُهُ أَمْرَانِ أَحَدُهُمَا مَا أَشَارَ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ (فَمُغَيِّرٌ لِمَفْهُومِهِ) أَيْ فَهَذَا الصَّنِيعُ مُغَيِّرٌ لِمَفْهُومِ الِاسْمِ؛ لِأَنَّهُ صَارَ الْمَعْنَى الْعِلْمَ بِوُجُوبِ الْعَمَلِ بِالْأَحْكَامِ الْمَظْنُونَةِ لِلْمُجْتَهِدِ، وَقَدْ كَانَ هُوَ الْعِلْمُ بِنَفْسِ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ الْعَمَلِيَّةِ، وَأَيْنَ أَحَدُهُمَا مِنْ الْآخَرِ. ثَانِيهِمَا مَا أَشَارَ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ (وَيَقْصُرُهُ) أَيْ هَذَا الصَّنِيعُ الْفِقْهَ (عَلَى حُكْمٍ) وَاحِدٍ مِنْ الْأَحْكَامِ الْخَمْسَةِ، وَهُوَ وُجُوبُ الْعَمَلِ بِمَا ظَنَّهُ الْمُجْتَهِدُ فَيَصِيرُ الْفِقْهُ كُلُّهُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ الْوَاحِدَةَ، وَقَدْ كَانَ الْعِلْمُ بِأَحْكَامٍ شَرْعِيَّةٍ مِنْ وُجُوبٍ وَنَدْبٍ وَتَحْرِيمٍ وَكَرَاهَةٍ وَإِبَاحَةٍ، وَهَذَانِ اللَّازِمَانِ بَاطِلَانِ فَالْمَلْزُومُ مِثْلُهُمَا فَإِنْ قِيلَ الْمُرَادُ الْعِلْمُ بِمُقْتَضَى الظَّنِّ بِالْأَحْكَامِ عَلَى الْوَجْهِ الْمَظْنُونِ فَإِنْ ظَنَّ وُجُوبَهُ عَلِمَ وُجُوبَ الْعَمَلِ بِهِ، وَإِنْ ظَنَّ حُرْمَتَهُ عَلِمَ حُرْمَةَ الْعَمَلِ بِهَا وَكَذَا الْبَاقِي وَالتَّعَرُّضُ لِلْوُجُوبِ عَلَى سَبِيلِ التَّمْثِيلِ أُجِيبَ بِأَنَّ الْقِيَاسَ الْمَذْكُورَ لَا يُفِيدُ إلَّا وُجُوبَ الْعَمَلِ بِمُقْتَضَى الظَّنِّ لَا غَيْرُ، وَلَا يُقَالُ الْمُرَادُ وُجُوبُ اعْتِقَادِ الْحُكْمِ عَلَى الْوَجْهِ الْمَظْنُونِ فَإِذَا كَانَ النَّدْبُ مَظْنُونًا وَجَبَ اعْتِقَادُ نَدْبِيَّتِهِ، وَهَكَذَا الْبَاقِي؛ لِأَنَّا نَقُولُ لَا دَلَالَةَ لِلْعِلْمِ بِالْأَحْكَامِ عَلَى ذَلِكَ فَحِينَئِذٍ يَكُونُ التَّعْرِيفُ فَاسِدًا ثُمَّ هَذَا كُلُّهُ بَعْدَ تَسْلِيمِ صِحَّةِ أَنْ يُقَالَ أَوَّلًا الْعِلْمُ بِالْأَحْكَامِ وَيُرَادُ الْعِلْمُ بِوُجُوبِ الْعَمَلِ بِالْأَحْكَامِ، وَإِلَّا فَقَدْ يُقَالُ أَوَّلًا لَا دَلَالَةَ لَهُ عَلَى هَذَا بِشَيْءٍ مِنْ الدَّلَالَاتِ الثَّلَاثِ، وَلَوْ قِيلَ أُطْلِقَ ذَلِكَ وَأُرِيدَ بِهِ هَذَا مَجَازًا فَجَوَابُهُ أَنَّهُ أَوَّلًا مَمْنُوعٌ إذْ لَا عَلَاقَةَ بَيْنَهُمَا مُجَوِّزَةً لَهُ وَلَوْ سَلِمَ فَمِثْلُ هَذَا الْمَجَازِ لَيْسَ بِشَهِيرٍ وَلَا قَرِينَةَ ظَاهِرَةً عَلَيْهِ فَلَا يَجُوزُ اسْتِعْمَالُهُ فِي التَّعْرِيفَاتِ وَثَانِيًا الْعِلْمُ بِوُجُوبِ الْعَمَلِ بِالْأَحْكَامِ مُسْتَفَادٌ مِنْ الْأَدِلَّةِ الْإِجْمَالِيَّةِ، وَالْفِقْهُ مُسْتَفَادٌ مِنْ الْأَدِلَّةِ التَّفْصِيلِيَّةِ. وَثَالِثًا إنَّمَا يَتِمُّ هَذَا الْمَطْلُوبُ عَلَى مَذْهَبِ الْمُصَوِّبَةِ الْقَائِلِينَ بِكَوْنِ الْأَحْكَامِ تَابِعَةً لِظَنِّ الْمُجْتَهِدِ، وَهُوَ قَوْلٌ مَرْجُوحٌ كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ فِي مَوْضِعِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

وَأَمَّا عَلَى مَذْهَبِ غَيْرِهِمْ فَيَجِبُ عَلَيْهِ اتِّبَاعُ ظَنِّهِ وَلَوْ خَطَأً فَلَا يَكُونُ مَنَاطًا لِلْحُكْمِ وَلَا وُجُوبَ اتِّبَاعِهِ مُوَصِّلًا لَهُ إلَى الْعِلْمِ، قَالَ الْمُحَقِّقُ الشَّرِيفُ: وَلَا مُخَلِّصَ إلَّا أَنْ يُرَادَ بِالْأَحْكَامِ أَعَمُّ مِمَّا هُوَ حُكْمُ اللَّهِ تَعَالَى فِي نَفْسِ الْأَمْرِ أَوْ فِي الظَّاهِرِ، وَمَظْنُونُهُ حُكْمُ اللَّهِ ظَاهِرًا طَابَقَ الْوَاقِعَ أَوْ لَا، وَهُوَ الَّذِي نِيطَ بِظَنِّهِ، وَأَوْصَلَهُ وُجُوبُ اتِّبَاعِهِ إلَى الْعِلْمِ بِثُبُوتِهِ، وَمِنْ هَا هُنَا

<<  <  ج: ص:  >  >>