للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

يَنْحَلُّ الْإِشْكَالُ بِأَنَّا نَقْطَعُ بِبَقَاءِ ظَنِّهِ، وَعَدَمِ جَزْمِ مُزِيلٍ لَهُ، وَإِنْكَارُهُ بُهْتٌ فَيَسْتَحِيلُ تَعَلُّقُ الْعِلْمِ بِهِ لِتَنَافِيهِمَا وَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الظَّنَّ الْبَاقِيَ مُتَعَلَّقٌ بِالْحُكْمِ قِيَاسًا إلَى نَفْسِ الْأَمْرِ وَالْعِلْمِ الْمُتَعَلَّقِ بِهِ مَقِيسًا إلَى الظَّاهِرِ (وَمَا قِيلَ فِي) وَجْهِ (إثْبَاتِ قَطْعِيَّةِ مَظْنُونَاتِ الْمُجْتَهِدِ) بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْمُصِيبَ وَاحِدٌ كَمَا هُوَ الْمَذْهَبُ الرَّاجِحُ عَلَى مَا ذَكَرَهُ الْفَاضِلُ الْعِبْرِيُّ فِي شَرْحِ مِنْهَاجِ الْبَيْضَاوِيِّ مِنْ الْقِيَاسِ الْمُرَكَّبِ الْمَفْصُولِ النَّتَائِجِ لِإِنْتَاجِ أَنَّ الْفِقْهَ عِبَارَةٌ عَنْ عِلْمٍ قَطْعِيٍّ مُتَعَلَّقٍ بِمَعْلُومٍ قَطْعِيٍّ، وَهُوَ الْحُكْم الْمَظْنُونُ لِلْمُجْتَهِدِ، وَأَنَّ الظَّنَّ إنَّمَا هُوَ وَسِيلَةٌ إلَيْهِ لَا نَفْسُهُ (مَظْنُونَةٌ) أَيْ الْحُكْمُ الْمَظْنُونُ لِلْمُجْتَهِدِ (مَقْطُوعٌ بِوُجُوبِ الْعَمَلِ بِهِ) لِلدَّلِيلِ الْقَاطِعِ عَلَيْهِ كَمَا سَلَفَ فَهَذِهِ صُغْرَى قَطْعِيَّةٌ (وَكُلُّ مَا قُطِعَ إلَخْ) أَيْ بِوُجُوبِ الْعَمَلِ بِهِ (فَهُوَ مَقْطُوعٌ بِهِ) أَيْ بِأَنَّهُ حُكْمُ اللَّهِ، وَإِلَّا لَمْ يَجِبْ الْعِلْمُ بِهِ فَهَذِهِ كُبْرَى قَطْعِيَّةٌ أَيْضًا فَيَنْتُجُ مِنْ الضَّرْبِ الثَّانِي مِنْ الشَّكْلِ الْأَوَّلِ لَازِمٌ قَطْعِيٌّ ضَرُورَةً قَطْعِيَّةَ الْمُقَدِّمَتَيْنِ، وَهُوَ مَظْنُونُ الْمُجْتَهِدِ مَقْطُوعٌ بِأَنَّهُ حُكْمُ اللَّهِ، وَهُوَ الْمَطْلُوبُ، وَلَمَّا كَانَ كُلٌّ مِنْ هَذِهِ الصُّغْرَى وَالْكُبْرَى مُحْتَاجًا إلَى كَسْبٍ بِقِيَاسٍ آخَرَ تُجْعَلُ كُبْرَى هَذَا الْقِيَاسِ صُغْرَى لِكُبْرَى قِيَاسٍ آخَرَ هَكَذَا كُلُّ مَا قَطَعَ بِوُجُوبِ الْعَمَلِ بِهِ فَهُوَ مَعْلُومٌ قَطْعًا، وَكُلُّ مَا هُوَ مَعْلُومٌ قَطْعًا فَهُوَ مَقْطُوعٌ بِهِ يُنْتِجُ إذَا سَلِمَتْ مُقَدِّمَتَاهُ كُلَّ حُكْمٍ قُطِعَ بِوُجُوبِ الْعَمَلِ بِهِ فَهُوَ مَقْطُوعٌ بِهِ فَتَثْبُتُ الْكُبْرَى الْمَذْكُورَةُ حِينَئِذٍ ثُمَّ تُجْعَلُ صُغْرَى الْقِيَاسِ الْأَوَّلِ صُغْرَى لِقِيَاسٍ آخَرَ، وَهَذِهِ النَّتِيجَةُ كُبَرَاهُ هَكَذَا الْحُكْمُ الْمَظْنُونُ لِلْمُجْتَهِدِ مَقْطُوعٌ بِوُجُوبِ الْعَمَلِ بِهِ وَكُلُّ مَقْطُوعٍ بِوُجُوبِ الْعَمَلِ بِهِ فَهُوَ مَقْطُوعٌ بِهِ يُنْتِجُ إذَا سَلِمَتْ مُقَدِّمَتَاهُ الْحُكْمَ الْمَظْنُونَ لِلْمُجْتَهِدِ مَقْطُوعٌ بِهِ فَتَثْبُتُ الصُّغْرَى حِينَئِذٍ.

فَالْجَوَابُ أَنَّ تَمَامَ هَذَا مَوْقُوفٌ عَلَى تَسْلِيمِ مُقَدِّمَتَيْهِ أَوْ قِيَامِ الدَّلِيلِ عَلَى تَمَامِهِمَا وَلَمْ يُوجَدْ كُلٌّ مِنْهُمَا بَلْ هُوَ مَسْلَمُ الصُّغْرَى (مَمْنُوعُ الْكُبْرَى) ، وَهِيَ وَكُلُّ مَا قَطَعَ بِوُجُوبِ الْعِلْمِ بِهِ فَهُوَ مَقْطُوعٌ بِأَنَّهُ حُكْمُ اللَّهِ فَإِنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ كُلَّ مَا قُطِعَ بِوُجُوبِ الْعَمَلِ بِهِ يَكُونُ هُوَ نَفْسُهُ قَطْعِيَّ الثُّبُوتِ بِأَنَّهُ حُكْمُ اللَّهِ، لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بَعْضُهُ ظَنِّيَّ الثُّبُوتِ بِأَنَّهُ حُكْمُ اللَّهِ بَلْ هَذَا هُوَ الثَّابِتُ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ؛ لِأَنَّ مِنْ الظَّاهِرِ أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ مَثَلًا يَقْطَعُ بِوُجُوبِ الْعَمَلِ بِالْوِتْرِ عَلَيْهِ وَلَا يَقْطَعُ بِثُبُوتِ وُجُوبِ الْوِتْرِ نَفْسِهِ بَلْ إنَّمَا ظَنَّهُ، وَقَطَعَ بِحُكْمٍ آخَرَ بَعْدَهُ، وَهُوَ وُجُوبُ الْعَمَلِ بِهَذَا الْمَظْنُونِ فَهُوَ نَفْسُهُ مَظْنُونٌ وَلُزُومُ الْعَمَلِ قَطْعِيٌّ فَظَهَرَ أَنَّ قَوْلَهُ، وَإِلَّا لَمْ يَجِبْ الْعَمَلُ بِهِ مَمْنُوعٌ لِظُهُورِ أَنَّهُ يَجِبُ الْعَمَلُ بِمَا يَظُنُّ أَنَّهُ حُكْمُ اللَّهِ تَعَالَى أَيْضًا عَلَى أَنَّهُ كَمَا قَالَ الشَّيْخُ جَمَالُ الدِّينِ الْإِسْنَوِيُّ مَا ذَكَرَ، وَإِنْ دَلَّ عَلَى أَنَّ الْحُكْمَ مَقْطُوعٌ بِهِ لَكِنْ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مَعْلُومٌ؛ لِأَنَّ الْقَطْعَ أَعَمُّ مِنْ الْعِلْمِ إذَا الْمُقَلِّدُ قَاطِعٌ وَلَيْسَ بِعَالِمٍ يَعْنِي، وَقَدْ عُرِفَ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ ثُبُوتِ الْأَعَمِّ ثُبُوتُ أَخَصًّ بِخُصُوصِهِ، وَإِنْ بَنَى عَلَى أَنَّ كُلَّ مَا هُوَ مَظْنُونٌ لِلْمُجْتَهِدِ فَهُوَ حُكْمُ اللَّهِ قَطْعًا كَمَا هُوَ رَأْيُ الْبَعْضِ يَكُونُ ذِكْرُ وُجُوبِ الْعَمَلِ ضَائِعًا لَا مَعْنَى لَهُ أَصْلًا ذَكَرَهُ الْمُحَقِّقُ سَعْدُ الدِّينِ التَّفْتَازَانِيُّ وَلَا يَمْنَعُ هَذَا اسْتِرْوَاحًا إلَى أَنَّ الِاسْتِدْلَالَ حِينَئِذٍ مِنْ الشَّكْلِ الثَّالِثِ هَكَذَا الْحُكْمُ الْمَظْنُونُ لِلْمُجْتَهِدِ يَجِبُ الْعَمَلُ بِهِ، وَكُلُّ مَا هُوَ مَظْنُونٌ لِلْمُجْتَهِدِ فَهُوَ حُكْمُ اللَّهِ قَطْعًا؛ لِأَنَّهُ يُنْتِجُ بَعْضَ مَا يَجِبُ الْعَمَلُ بِهِ فَهُوَ حُكْمُ اللَّهِ قَطْعًا فَلَا يُثْبِتُ الْمُدَّعِي، وَهُوَ كُلُّ مَا يَجِبُ الْعَمَلُ بِهِ مِنْ الْحُكْمِ الْمَظْنُونِ لِلْمُجْتَهِدِ فَهُوَ حُكْمُ اللَّهِ قَطْعًا عَلَى أَنَّ هَذَا بِنَاءً عَلَى رَأْيٍ غَيْرِ سَدِيدٍ.

هَذَا وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَمَّا ظَهَرَ مِنْ تَعْرِيفِ الْمُصَنِّفِ لِلْفِقْهِ أَنَّهُ مَجْمُوعُ أَمْرَيْنِ الْعِلْمُ بِالْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ الْعَمَلِيَّةِ الْقَطْعِيَّةِ، وَمَلَكَةُ الِاسْتِنْبَاطِ، وَقَدْ اُعْتُرِضَ عَلَى مِثْلِهِ بِأَنَّ ذِكْرَهَا مِمَّا يُجْتَنَبُ فِي التَّعْرِيفِ لِعَدَمِ تَعَيُّنِ مَا هُوَ الْمُرَادُ مِنْهَا فِي نَفْسِهِ وَخُصُوصًا إذَا أُرِيدَ بِهَا الصِّفَةُ الَّتِي يُقَالُ لَهَا التَّهَيُّؤُ فَإِنَّهُ إنْ أُرِيدَ مُطْلَقُهُ كَانَ الْفِقْهُ بِهَذَا الْمَعْنَى حَاصِلًا لِغَيْرِ الْفَقِيهِ لِجَوَازِ حُصُولِ ذَلِكَ لَهُ، وَإِنْ أُرِيدَ خَاصٌّ مِنْهُ، وَهُوَ الْمُسَمَّى بِالْقَرِيبِ فَمُتَفَاوِتُ الْمَرَاتِبِ وَلِهَذَا يُفَضَّلُ بَعْضُ الْمُجْتَهِدِينَ عَلَى بَعْضٍ، وَلَا كُلِّيٌّ ضَابِطٌ لَهَا لِيَكُونَ هُوَ الْمُرَادَ فَلَزِمَتْ الْجَهَالَةُ فِي الْمَرْتَبَةِ الْمُرَادَةِ مِنْهُ دَفَعَهُ الْمُصَنِّفُ بِأَنَّ الْمُرَادَ مِنْهَا مَعْلُومٌ كَمَا أَشَارَ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ: (وَالْمُرَادُ بِالْمَلَكَةِ أَدْنَى مَا تَتَحَقَّقُ بِهِ الْأَهْلِيَّةُ) لِلِاجْتِهَادِ بِقَرِينَةِ إضَافَتِهَا إلَى الِاسْتِنْبَاطِ، وَهِيَ أَدْنَى الْمَرَاتِبِ الَّتِي بِهَا يَصِيرُ

<<  <  ج: ص:  >  >>