للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

بَصِيرَةٍ أَوْ زِيَادَتِهَا فِي طَلَبِهِ؛ لِأَنَّ التَّعْرِيفَ لِلْعِلْمِ إنَّمَا يُؤْخَذُ مِنْ جِهَةِ وَحْدَةِ الْمَوْضُوعِ أَوْ الْغَايَةِ أَوْ كِلْتَيْهِمَا؛ لِأَنَّ حَقِيقَةَ ذَلِكَ الْعِلْمِ تَتَمَيَّزُ عَنْ الْحَقَائِقِ الْأُخَرِ بِتِلْكَ الْجِهَةِ، وَمِنْ هُنَا يُعْلَمُ كَوْنُ التَّعْرِيفِ حَقِيقِيًّا أَوْ رَسْمِيًّا، وَإِنَّمَا كَانَ الْجَدِيرُ بِالطَّالِبِ هَذَا؛ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَتَصَوَّرْهُ بِوَجْهٍ اسْتَحَالَ طَلَبُهُ وَلَوْ تَوَجَّهَ إلَى تَصَوُّرِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ أَفْرَادِ تِلْكَ الْكَثْرَةِ بِخُصُوصِهِ تَعَذَّرَ عَلَيْهِ ذَلِكَ أَوْ تَعَسَّرَ وَلَوْ انْدَفَعَ إلَى طَلَبِ الْكَثْرَةِ مِنْ حَيْثُ إنَّهَا جُزْئِيٌّ لِلْمَفْهُومِ الْعَامِّ قَبْلَ ضَبْطِهَا بِجِهَةِ الْوَحْدَةِ لَمْ يَتَمَيَّزْ عِنْدَهُ الْمَطْلُوبُ، وَلَمْ يَأْمَنْ أَنْ يُؤَدِّيَهُ الطَّلَبُ إلَى غَيْرِهِ فَيَفُوتَ مَا يَعْنِيهِ وَيَضِيعَ عُمُرُهُ فِيمَا لَا يُغْنِيهِ.

فَحِينَئِذٍ الْجَدِيرُ بِطَالِبِ عِلْمِ الْأُصُولِ أَنْ يَتَصَوَّرَهُ أَوَّلًا بِحَدِّهِ غَيْرَ أَنَّهُ إذْ كَانَ التَّعْرِيفُ لَهُ اسْمِيًّا، وَأَسْمَاءُ الْعُلُومِ تُقَالُ عَلَيْهَا بِكُلٍّ مِنْ الِاعْتِبَارَيْنِ فَحَسُنَ أَنْ يُعْرَفَ بِالنَّظَرِ إلَى كُلٍّ مِنْهُمَا (فَعَلَى الْأَوَّلِ) أَيْ فَيُقَالُ عَلَى أَنَّ لَفْظَ أُصُولِ الْفِقْهِ مَوْضُوعٌ بِإِزَاءِ الْإِدْرَاكِ (هُوَ) أَيْ مُسَمَّى هَذَا الِاسْمِ (إدْرَاكُ الْقَوَاعِدِ الَّتِي يُتَوَصَّلُ بِهَا إلَى اسْتِنْبَاطِ الْفِقْهِ) فَإِدْرَاكٌ مَعَ قَطْعِ النَّظَرِ عَنْ كَوْنِ مُتَعَلَّقِهِ الْقَوَاعِدَ جِنْسٌ صَالِحٌ؛ لَأَنْ تَكُونَ هِيَ مُتَعَلَّقَةٌ وَغَيْرُهَا مِنْ الْجُزْئِيَّاتِ وَالْكُلِّيَّاتِ وَبِإِضَافَتِهِ إلَى الْقَوَاعِدِ خَرَجَ إدْرَاكُ الْجُزْئِيَّاتِ، وَمَا عَدَا الْقَوَاعِدَ مِنْ الْكُلِّيَّاتِ، وَالْمُرَادُ بِإِدْرَاكِهَا التَّصْدِيقُ بِهَا أَعَمُّ مِنْ أَنْ يَكُونَ قَطْعِيًّا أَوْ ظَنِّيًّا مُطَابِقًا لِلْوَاقِعِ أَوْ غَيْرَ مُطَابِقٍ كَمَا سَيَظْهَرُ، وَالْمُرَادُ بِالْقَوَاعِدِ هُنَا الْقَضَايَا الْكُلِّيَّةِ الْمُنْطَبِقَةِ عَلَى جُزْئِيَّاتِهَا عِنْدَ تَعَرُّفِ أَحْكَامِهَا فَالْمُرَادُ بِهَا حِينَئِذٍ الْمَعْلُومَاتُ كَمَا سَيَأْتِي قَرِيبًا بَيَانُهُ.

وَبِقَوْلِهِ الَّتِي يُتَوَصَّلُ بِمَعْرِفَتِهَا إلَى اسْتِنْبَاطِ الْفِقْهِ خَرَجَتْ الْقَوَاعِدُ الَّتِي لَيْسَتْ كَذَلِكَ سَوَاءٌ كَانَتْ تِلْكَ لَا يُتَوَصَّلُ بِهَا إلَى شَيْءٍ لِكَوْنِهَا مَقْصُودَةً لِنَفْسِهَا أَوْ يُتَوَصَّلُ بِهَا إلَى غَيْرِ الْفِقْهِ سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ مِنْ الصَّنَائِعِ أَوْ الْعُلُومِ، وَمِنْهُ عِلْمُ الْخِلَافِ فَإِنَّهُ عِلْمٌ يُتَوَصَّلُ بِهِ إلَى حِفْظِ الْأَحْكَامِ الْمُسْتَنْبَطَةِ الْمُخْتَلَفِ فِيهَا بَيْنَ الْأَئِمَّةِ أَوْ هَدْمِهَا لَا إلَى اسْتِنْبَاطِهَا، وَمِنْهُ عِلْمُ الْجَدَلِ فَإِنَّهُ عِلْمٌ بِقَوَاعِدَ يُتَوَصَّلُ بِهَا إلَى حِفْظِ رَأْيٍ أَوْ هَدْمِهِ أَعَمُّ مِنْ أَنْ يَكُونَ فِي الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ أَوْ غَيْرِهَا فَنِسْبَتُهُ إلَى الْفِقْهِ وَغَيْرِهِ سَوَاءٌ فَإِنَّ الْجَدَلِيَّ إمَّا مُجِيبٌ يَحْفَظُ وَضْعًا أَوْ مُعْتَرِضٌ يَهْدِمُ وَضْعًا نَعَمْ أَكْثَرَ الْفُقَهَاءِ فِيهِ مِنْ مَسَائِلَ الْفِقْهِ، وَبَنَوْا نِكَاتَهُ عَلَيْهَا حَتَّى تَوَهَّمَ أَنَّ لَهُ اخْتِصَاصًا بِهِ وَانْطَبَقَ التَّعْرِيفُ عَلَى مُسَمَّى أُصُولِ الْفِقْهِ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ إلَى زِيَادَةٍ عَلَى وَجْهِ التَّحْقِيقِ؛ لِإِخْرَاجِ هَذَيْنِ الْعِلْمَيْنِ كَمَا فَعَلَ صَدْرُ الشَّرِيعَةِ فَإِنَّ قُلْت مِنْ الظَّاهِرِ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْفِقْهِ هُنَا مَا تَقَدَّمَ فَيَصِيرُ تَقْدِيرُ الْحَدِّ إدْرَاكُ الْقَوَاعِدِ الْمُتَوَصَّلِ بِمَعْرِفَتِهَا إلَى اسْتِنْبَاطِ التَّصْدِيقِ لِأَعْمَالِ الْمُكَلَّفِينَ الَّتِي لَا تُقْصَدُ لِاعْتِقَادٍ بِالْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ الْقَطْعِيَّةِ مَعَ مَلَكَةِ الِاسْتِنْبَاطِ، وَفِيهِ مَا فِيهِ.

قُلْت لَا ضَيْرَ فِيهِ فَإِنَّ الْمُرَادَ بِاسْتِنْبَاطِ التَّصْدِيقِ الْمَذْكُورِ الِاسْتِدْلَال عَلَيْهِ بِضَمِّ الْقَاعِدَةِ الْكُلِّيَّةِ الَّتِي تَقَعُ كُبْرَى إلَى الصُّغْرَى السَّهْلَةِ الْحُصُولِ فِي الشَّكْلِ الْأَوَّلِ لِيَخْرُجَ الْمَطْلُوبُ الْفِقْهِيُّ مِنْ الْقُوَّةِ إلَى الْفِعْلِ وَلَا نَكِيرَ فِي هَذَا غَايَتُهُ أَنَّ هَذَا لَا يَتَأَتَّى إلَّا لِلْمُجْتَهِدِ؛ لِأَنَّ تَحْصِيلَ تِلْكَ الْقَاعِدَةِ الْكُلِّيَّةِ ثُمَّ تَرْكِيبُهَا مَعَ غَيْرِهَا عَلَى الْوَجْهِ الْمُنْتِجِ لِلْمَطْلُوبِ يَتَوَقَّفُ عَلَى الْبَحْثِ عَنْ أَحْوَالِ الْأَدِلَّةِ وَالْأَحْكَامِ، وَمَعْرِفَةِ الشَّرَائِطِ وَالْقُيُودِ الْمُعْتَبَرَةِ فِي كُلِّيَّةِ الْقَاعِدَةِ وَبِالْجُمْلَةِ يَتَوَقَّفُ ذَلِكَ عَلَى قِيَامِ مَلَكَةِ الِاسْتِنْبَاطِ بِالْمُحَصَّلِ، وَهِيَ لَا تَكُونُ إلَّا لِمَنْ هُوَ فِي رُتْبَةِ الِاجْتِهَادِ وَلَا بَأْسَ بِالْقَوْلِ بِاخْتِصَاصِ قِيَامِ هَذَا الْعِلْمِ أَجْمَعَ بِمَنْ هُوَ فِي هَذِهِ الْمَرْتَبَةِ حَتَّى إنَّ مَنْ لَيْسَ كَذَلِكَ فَهُوَ إمَّا عَادِمٌ لَهُ أَوْ ذُو حَظٍّ مِنْهُ بِحَسَبِهِ، وَلَا يُقَالُ التَّعْرِيفُ صَادِقٌ عَلَى الْعِلْمِ بِقَوَاعِدِ الْعَرَبِيَّةِ وَالْكَلَامِ؛ لِأَنَّهُ يُتَوَصَّلُ بِكُلٍّ مِنْهُمَا إلَى اسْتِنْبَاطِ الْفِقْهِ؛ لِأَنَّا نَقُولُ الْمُرَادُ بِالتَّوَصُّلِ بِمَعْرِفَتِهَا التَّوَصُّلُ الْقَرِيبُ بِمُسَاعَدَةِ بَاءَ السَّبَبِيَّةِ، وَإِطْلَاقُ التَّوَصُّلِ إلَى ذَلِكَ إذْ الْبَعِيدُ إنَّمَا يَكُونُ فِي الْحَقِيقَةِ إلَى الْوَاسِطَةِ، وَمِنْهَا إلَى اسْتِنْبَاطِ الْفِقْهِ وَكُلٌّ مِنْ الْقَوَاعِدِ الْعَرَبِيَّةِ وَالْقَوَاعِدِ الْكَلَامِيَّةِ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ فَإِنَّهُ يُتَوَصَّلُ بِقَوَاعِدِ الْعَرَبِيَّةِ إلَى مَعْرِفَةِ كَيْفِيَّةِ دَلَالَةِ الْأَلْفَاظِ عَلَى مَدْلُولَاتِهَا الْوَضْعِيَّةِ وَبِوَاسِطَةِ ذَلِكَ يُقْتَدَرُ عَلَى اسْتِنْبَاطِ الْأَحْكَامِ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَبِقَوَاعِدِ الْكَلَامِ إلَى ثُبُوتِ الْكِتَابِ

<<  <  ج: ص:  >  >>