وَالسُّنَّةِ وَوُجُوبِ صِدْقِهِمَا؛ لِيُتَوَصَّلَ بِذَلِكَ إلَى الْفِقْهِ فَإِنْ قِيلَ التَّوَصُّلُ الْمَذْكُورُ لَا يَكُونُ إلَّا بِقَوَاعِدِ الْمَنْطِقِ فَيَكُونُ الْمَنْطِقُ جُزْءًا مِنْ الْأُصُولِ.
أُجِيبَ بِأَنَّ وَصْفَ الْقَوَاعِدِ بِالتَّوَصُّلِ يُشْعِرُ بِمَزِيدِ اخْتِصَاصٍ لَهَا بِالْأَحْكَامِ، وَلَا كَذَلِكَ قَوَاعِدُ الْمَنْطِقِ ثُمَّ فِي قَوْلِهِ يُتَوَصَّلُ إلَخْ إشَارَةٌ إلَى أَنَّ هَذَا الْعِلْمَ طَرِيقٌ إلَى غَيْرِهِ غَيْرُ مَقْصُودٍ بِالذَّاتِ لِنَفْسِهِ، وَإِلَى أَنَّ غَايَتَهُ حُصُولُ غَيْرِهِ كَمَا هُوَ شَأْنُ الْعُلُومِ الْآلِيَّةِ كَمَا أَنَّ غَايَةَ الْعِلْمِ الْمَقْصُودِ حُصُولُ نَفْسِهِ قَالَ شَيْخُنَا الْمُصَنِّفُ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وَإِنْ كَانَ لَهُ غَايَةٌ أُخْرَوِيَّةٌ أَوْ دُنْيَوِيَّةٌ إذْ لَيْسَ مُسَمَّى الْغَايَةِ إلَّا مَا عَلِمْت اهـ.
وَهُوَ حَسَنٌ، وَإِلَى وَحْدَةِ غَايَتِهِ فَإِنَّ الْغَايَةَ الْمَقْصُودَةَ مِنْهُ هِيَ التَّمَكُّنُ مِنْ اسْتِنْبَاطِ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ عَنْ أَدِلَّتِهَا التَّفْصِيلِيَّةِ (وَقَوْلُهُمْ) أَيْ جَمْعٌ مِنْ الْأُصُولِيِّينَ فِي تَعْرِيفِهِ (عَنْ) الْأَدِلَّةِ (التَّفْصِيلِيَّةِ) بَعْدَ قَوْلِهِمْ الْعِلْمُ بِالْقَوَاعِدِ الَّتِي يُتَوَصَّلُ بِهَا إلَى اسْتِنْبَاطِ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ الْفَرْعِيَّةِ كَمَا هُوَ تَعْرِيفُ ابْنِ الْحَاجِبِ وَصَاحِبِ الْبَدِيعِ وَغَيْرِهِمَا (تَصْرِيحٌ بِلَازِمٍ) ظَاهِرٍ لِلِاسْتِنْبَاطِ فَإِنَّ اسْتِنْبَاطَ الْأَحْكَامِ الْمَذْكُورَةِ لَا يَكُونُ إلَّا كَذَلِكَ فَهُوَ بَيَانٌ لِلْوَاقِعِ لَا لِلِاحْتِرَازِ عَمَّا هُوَ دَاخِلٌ بِدُونِ ذِكْرِهِ إذْ لَمْ يُوجَدْ عِلْمٌ بِقَوَاعِدَ يُتَوَصَّلُ بِهَا إلَى اسْتِنْبَاطِ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ الْفَرْعِيَّةِ مِنْ أَدِلَّتِهَا الْإِجْمَالِيَّةِ حَتَّى يُحْتَرَزَ بِذِكْرِ التَّفْصِيلِيَّةِ عَنْهُ فَلَا ضَيْرَ فِي تَرْكِهِ بَلْ لَعَلَّ تَرَكَهُ أَدْخَلُ فِي بَابِ التَّحْقِيقِ فِي شَأْنِ الْحُدُودِ. (وَإِخْرَاجُ) عِلْمِ (الْخِلَافِ) عَنْ تَعْرِيفِ عِلْمِ الْأُصُولِ (بِهِ) أَيْ بِقَوْلِهِمْ عَنْ أَدِلَّتِهَا التَّفْصِيلِيَّةِ كَمَا فِي الْبَدِيعِ فَإِنَّ قَوْلَ الْخِلَافِيِّ مَثَلًا ثَبَتَ بِالْمُقْتَضَى السَّالِمِ عَنْ الْمُعَارِضِ وَلَمْ يُبَيِّنْهُ أَوْ لَوْ ثَبَتَ لَكَانَ مَعَ الْمُنَافِي وَلَمْ يُبَيِّنْهُ تَمَسُّكٌ بِالدَّلِيلِ الْإِجْمَالِيِّ (غَلَطٌ) فَإِنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ تَعْيِينِ ذَلِكَ الْمُقْتَضِي أَوْ الْمُنَافِي، وَإِنْ أَجْمَلَ فِي أَوَّلِ كَلَامِهِ فَيَقُولُ ثَبَتَ مَعَ الْمُقْتَضِي، وَهُوَ كَذَا أَوْ مَعَ الْمُنَافِي، وَهُوَ كَذَا وَحِينَئِذٍ فَهُوَ مُتَمَسِّكٌ بِالدَّلِيلِ التَّفْصِيلِيِّ، وَإِلَّا لَمْ يَثْبُتْ لَهُ شَيْءٌ؛ لِأَنَّ كَلَامَهُ حِينَئِذٍ مُجَرَّدُ دَعْوَى أَنَّ هُنَاكَ مُقْتَضِيًا أَوْ نَافِيًا.
مِثَالُهُ لَوْ قَالَ الْحَنَفِيُّ الْمُعَلِّلُ: الْوِتْرُ وَاجِبٌ لَا يَكْفِيهِ أَنْ يَقْتَصِرَ عَلَى قَوْلِهِ لِوُجُودِ الْمُقْتَضِي بَلْ لَا بُدَّ أَنْ يُعَيِّنَهُ بِأَنْ يَقُولَ مَثَلًا، وَهُوَ قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الْوِتْرُ حَقٌّ فَمَنْ لَمْ يُوتِرْ فَلَيْسَ مِنِّي الْوِتْرُ حَقٌّ فَمَنْ لَمْ يُوتِرْ فَلَيْسَ مِنِّي الْوِتْرُ حَقٌّ فَمَنْ لَمْ يُوتَرْ فَلَيْسَ مِنِّي» كَمَا رَوَاهُ الْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ وَلَوْ قَالَ الْمُعْتَرِضُ الشَّافِعِيُّ: الْوِتْرُ لَيْسَ بِوَاجِبٍ لَا يَكْفِيهِ أَنْ يَقْتَصِرَ عَلَى قَوْلِهِ إذْ لَوْ ثَبَتَ وُجُوبُهُ لَكَانَ مَعَ الْمُنَافِي بَلْ لَا بُدَّ أَنْ يُعَيِّنَهُ بِأَنْ يَقُولَ مَثَلًا: وَهُوَ مَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يُوتِرُ عَلَى الْبَعِيرِ» فَيَحْتَاجُ الْمُعَلِّلُ إمَّا أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَهُمَا بِأَنَّ حَدِيثَ ابْنِ عُمَرَ وَاقِعَةُ حَالٍ لَا عُمُومَ لَهَا فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ لِعُذْرٍ أَوْ يُرَجِّحَ حَدِيثَ الْحَاكِمِ بِأَنَّهُ قَوْلٌ، وَالْقَوْلُ مُقَدَّمٌ عَلَى الْفِعْلِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ فَلَمْ يَذْكُرْ كُلٌّ مِنْهُمَا إلَّا دَلِيلًا تَفْصِيلِيًّا فَظَهَرَ أَنَّ الِاحْتِرَازَ عَنْ عِلْمِ الْخِلَافِ لَمْ يَقَعْ بِقَوْلِهِمْ عَنْ الْأَدِلَّةِ التَّفْصِيلِيَّةِ بَلْ إنَّمَا وَقَعَ بِمَا فِي الْحَدِّ مِنْ وَصْفِ الْقَوَاعِدِ بِكَوْنِهَا يُتَوَصَّلُ بِهَا إلَى اسْتِنْبَاطِ الْفِقْهِ ثُمَّ نَقُولُ اسْتِطْرَادًا: (وَعَلَيْهِ) أَيْ عَلَى أَنَّ اسْمَ الْعِلْمِ بِإِزَاءِ الْإِدْرَاكِ (مَا تَقَدَّمَ مِنْ) تَعْرِيفِ (الْفِقْهِ) تَغْلِيبًا لِأَحَدِ جُزْأَيْهِ الَّذِي هُوَ التَّصْدِيقُ الْمَذْكُورُ عَلَى الْجُزْءِ الْآخَرِ الَّذِي هُوَ مَلَكَةُ الِاسْتِنْبَاطِ فَإِنَّ التَّصْدِيقَ إدْرَاكٌ، وَهُوَ كَالْأَصْلِ فِي حُصُولِ الْمَلَكَةِ.
وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَمَّا وَقَعَ لِجَمَاعَةٍ كَابْنِ الْحَاجِبِ تَعْرِيفُ الْأُصُولِ بِالْعِلْمِ بِالْقَوَاعِدِ، وَفَسَّرَهُ أَعْيَانٌ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ كَشَمْسِ الدِّينِ الْأَصْفَهَانِيِّ وَسِرَاجِ الدِّينِ الْهِنْدِيِّ وَسَعْدِ الدِّينِ التَّفْتَازَانِيِّ بِأَنَّهُ الِاعْتِقَادُ الْجَازِمُ الْمُطَابِقُ وَوَقَعَ عِنْدَ الْمُصَنِّفِ عَدَمُ اشْتِرَاطِ الْمُطَابَقَةِ وَالْجَزْمِ لِوُجُودِ الْمُقْتَضِي لِعَدَمِ اشْتِرَاطِهِمَا أَفَاضَ فِي بَيَانِ ذَلِكَ فَقَالَ (وَجَعْلِ الْجِنْسَ) فِي تَعْرِيفِ الْأُصُولِ إذَا كَانَ مَوْضُوعًا بِإِزَاءِ الْإِدْرَاكِ (الِاعْتِقَادَ الْجَازِمَ الْمُطَابِقَ) لِلْوَاقِعِ لِمُوجِبٍ احْتِرَازًا بِالْجَزْمِ عَنْ الظَّنِّ وَبِالْمُطَابَقَةِ عَنْ الْجَهْلِ وَحَذَفُوا هَذَيْنِ الْقَيْدَيْنِ اللَّذَيْنِ ذَكَرْنَاهُمَا لِلْعِلْمِ بِهِمَا (مُشْكِلٌ بِقِصَّةِ الْمُخْطِئِ فِي) عِلْمِ (الْكَلَامِ) فَإِنَّ مُقْتَضَى هَذَا الْجَعْلِ أَنْ لَا يَكُونَ شَيْءٌ مِنْ الْإِدْرَاكِ الظَّنِّيِّ لِلْقَوَاعِدِ الْمَذْكُورَةِ، وَمِنْ الْإِدْرَاكِ الْقَطْعِيِّ لَهَا الَّذِي لَيْسَ بِمُطَابِقٍ لِلْوَاقِعِ مِنْ أُصُولِ الْفِقْهِ لَكِنْ صَرَّحَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute