للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الْقَاضِي عَضُدُ الدِّينِ وَغَيْرُهُ بِأَنَّ الْمُخَالِفَ، وَإِنْ خُطِّئَ سَوَاءٌ بُدِّعَ فِي اعْتِقَادِهِ، وَفِيمَا يَتَمَسَّكُ بِهِ فِي إثْبَاتِهِ كَالْمُعْتَزِلَةِ أَوْ كُفِّرَ كَالْمُجَسِّمَةِ لَا يُخْرِجُهُ مِنْ عُلَمَاءِ الْكَلَامِ وَلَا عِلْمِهِ الَّذِي يَقْتَدِرُ مَعَهُ عَلَى إثْبَاتِ عَقَائِدِهِ الْبَاطِلَةِ وَلَا مَسَائِلِهِ مِنْ عِلْمِ الْكَلَامِ فَإِنَّهُ كَمَا قَالَ شَيْخُنَا الْمُصَنِّفُ عِلْمُ الْكَلَامِ يُقَالُ لِمَا يُبْحَثُ عَنْ أَحْوَالِ مَوْضُوعِهِ الْخَاصِّ الَّذِي هُوَ الْمَعْلُومُ مِنْ حَيْثُ يَثْبُتُ لَهُ مَا يَصِيرُ مَعَهُ عَقِيدَةً دِينِيَّةً أَوْ ذَاتُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى اخْتِلَافِهِمْ فَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ عِلْمُ الْمُخْطِئِ؛ لِأَنَّهُ يَبْحَثُ عَنْ أَحْوَالِ مَوْضُوعِهِ كَذَلِكَ فَإِذَا كَانَ هَذَا فِي الْكَلَامِ، وَهُوَ أَعْلَى الْعُلُومِ، وَأَلْزَمُهَا قَطْعًا بِالْمَسَائِلِ فَفِي الْأُصُولِ أَوْلَى، وَلَا شَكَّ أَنَّ إدْرَاكَ الْمُخْطِئِ لَيْسَ مُطَابِقًا فِي كُلِّ عِلْمٍ فَلَزِمَ أَنْ لَا يُذْكَرَ فِي عِلْمٍ مِنْ الْعُلُومِ لَفْظُ الْعِلْمِ جِنْسًا، وَيُرَادُ بِهِ ذَلِكَ. قُلْت: وَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ أَسْمَاءَ الْعُلُومِ إنَّمَا وُضِعَتْ بِإِزَاءِ مَا أَدَّى إلَيْهِ الْبَحْثُ عَنْ أَحْوَالِ مَوْضُوعِهَا مِنْ التَّصْدِيقَاتِ أَوْ الْمَسَائِلِ طَابَقَتْ أَوْ لَمْ تُطَابِقْ ثُمَّ هَذَا بَيَانُ الْمُقْتَضِي لِدُخُولِ غَيْرِ الْمُطَابِقِ هُنَا.

وَأَمَّا بَيَانُ الْمُقْتَضِي لِدُخُولِ التَّصْدِيقِ الظَّنِّيِّ فَأَشَارَ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ: (وَلِأَنَّا نَمْنَعُ اشْتِرَاطَهُ) أَيْ الِاعْتِقَادَ الْجَازِمَ الْمُطَابِقَ (فِي الْأُصُولِ) قَالَ الْمُصَنِّفُ: لِأَنَّ هَذِهِ الْقَوَاعِدَ الَّتِي هِيَ مَسَائِلُ أُصُولِ الْفِقْهِ مِمَّا يَكْفِي الظَّنُّ فِي أَنْ تُنْسَبَ إلَى مَوْضُوعَاتِهَا، وَهِيَ الْكُلِّيَّاتُ الْجَارِيَةُ عَلَى خُصُوصِيَّاتِ الْأَدِلَّةِ التَّفْصِيلِيَّةِ أَحْكَامُهَا كَالْأَمْرِ لِلْوُجُوبِ وَالنَّهْيِ لِلتَّحْرِيمِ وَتَخْصِيصِ الْعَامِّ يَجُوزُ وَالْمُشْتَرَكِ لَا يَعُمُّ وَخَبَرِ الْوَاحِدِ مُقَدَّمٌ عَلَى الْقِيَاسِ الْجَارِيَاتُ عَلَى {أَقِيمُوا الصَّلاةَ} [الأنعام: ٧٢] لَا تَقْرَبُوا الزِّنَا لَا تَقْتُلُوا النِّسَاءَ وَالصِّبْيَانَ، وَخَبَرُ الْقَهْقَهَةِ وَنَحْوُ ذَلِكَ. قُلْت: ثُمَّ هُنَا تَنْبِيهَاتٌ. أَحَدُهَا: أَنَّهُ قَدْ ظَهَرَ أَنْ هَذَا الْمَنْعَ الثَّانِيَ الصَّرِيحَ الْمُتَسَلِّطَ عَلَى اشْتِرَاطِ جُمْلَةِ هَذَا الْمُرَكَّبِ التَّقْيِيدِيِّ إنَّمَا هُوَ رَاجِعٌ إلَى اشْتِرَاطِ الْجَزْمِ مِنْهُ كَمَا أَنَّ الْمَنْعَ الْأَوَّلَ بِالْقُوَّةِ إنَّمَا هُوَ رَاجِعٌ إلَى اشْتِرَاطِ الْمُطَابَقَةِ مِنْهُ وَلَا رَيْبَ فِي صِحَّةِ مِثْلِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا وُجُودَ لِجُمْلَةِ الْمُرَكَّبِ بِدُونِ وُجُودِ جَمِيعِ أَجْزَائِهِ. ثَانِيهَا: إنْ قُلْت كَيْفَ يَسُوغُ هَذَا، وَقَدْ تَقَرَّرَ أَنَّ الْحَدَّ لَا يَمْنَعُ قُلْت لَيْسَ هَذَا بِالْمَنْعِ الْمَمْنُوعِ، وَإِنْ كَانَ بِلَفْظِ الْمَنْعِ، وَإِنَّمَا هُوَ بَيَانُ خَلَلٍ فِي الْحَدِّ أَوْجَبَ عَدَمَ كَوْنِهِ جَامِعًا، وَمِثْلُهُ لَا شَكَّ فِي جَوَازِهِ. ثَالِثُهَا: إنْ قُلْت إذَا كَانَ هَذَا الْإِدْرَاكُ الْخَاصُّ طَرِيقًا إلَى الْفِقْهِ، وَمِنْهُ مَا هُوَ ظَنٌّ لِقَاعِدَةٍ مَظْنُونَةٍ فِي نَفْسِهَا يَلْزَمُ مِنْهُ أَنْ يَكُونَ الْإِدْرَاكُ الْخَاصُّ الْمُتَعَلَّقُ بِجُزْئِيَّاتِهَا ظَنًّا أَيْضًا، وَأَنْ تَكُونَ جُزْئِيَّاتُ الْقَاعِدَةِ الْمَظْنُونَةِ مَظْنُونَةً أَيْضًا فَلَا يَتِمَّ كَوْنُ الْفِقْهِ التَّصْدِيقَ الْقَطْعِيَّ فَقَدْ أَجَابَ الْمُصَنِّفُ عَنْ هَذَا بِمَا حَاصِلُهُ الْقَوْلُ بِالْمُوجِبِ، وَمَنَعَ تَمَامَ كَوْنِ الْفِقْهِ التَّصْدِيقَ الْقَطْعِيَّ اصْطِلَاحًا، وَأَفَادَ أَنَّ ظَنَّ الْأَحْكَامِ الْمَذْكُورَةِ كَوُجُوبِ الْوِتْرِ وَحُرْمَةِ الْيَرَاعِ وَالشِّطْرَنْجِ وَاسْتِنَانِ الْأَرْبَعِ بِتَسْلِيمَةٍ وَكَرَاهَةِ التَّنَفُّلِ قَبْلَ الْمَغْرِبِ، وَمَا لَا يُحْصَى مِنْ أَفْرَادِ الْأَحْكَامِ الْمَظْنُونَةِ مُتَعَلَّقَاتٌ لِلْفِقْهِ لَا مِنْ الْفِقْهِ؛ لِأَنَّ مُتَعَلَّقَاتِ الْفِقْهِ لَيْسَتْ مِنْ ذَاتِهِ ثُمَّ إذْ قَدْ ظَهَرَ أَنَّ اللَّازِمَ أَنْ لَا يُذْكَرَ فِي تَعْرِيفِ عِلْمٍ مِنْ الْعُلُومِ لَفْظُ الْعِلْمِ جِنْسًا وَيُرَادُ بِهِ الِاعْتِقَادُ الْجَازِمُ الْمُطَابِقُ (فَالْأَوْجَهُ كَوْنُهُ) أَيْ مَعْنَى الْعِلْمِ جِنْسًا فِي تَعْرِيفِ أَيِّ عِلْمٍ كَانَ (أَعَمَّ) مِنْ الْجَازِمِ وَالْمُطَابِقِ قَالَ الْمُصَنِّفُ: هَذَا إنْ شَرَطَ فِي ذَلِكَ الْعِلْمِ الْجَزْمَ بِالْمَسَائِلِ وَلَمْ يَكْتَفِ فِيهِ بِالظَّنِّ، وَإِنْ اكْتَفَى بِهِ فَأَحْرَى.

ثُمَّ إنَّ الْأُصُولَ لَيْسَتْ كَالْكَلَامِ فَإِنَّ بَعْضَ مَسَائِلِهِ ظَنِّيَّةٌ كَمَا تَقَدَّمَتْ الْإِشَارَةُ إلَيْهِ فَلِهَذَا عَدَلَ الْمُصَنِّفُ إلَى جَعْلِ الْجِنْسِ الْإِدْرَاكَ الْأَعَمَّ مِنْ الْيَقِينِ الْكَائِنِ فِي الْمَسَائِلِ الْإِجْمَاعِيَّةِ مِنْ الْأُصُولِ وَالْجَهْلِ الْمُرَكَّبِ الْكَائِنِ مِنْ الْمُخْطِئِ فِي خِلَافِيَّاتِهِ وَالظَّنِّ الْكَائِنِ فِي الظَّنِّيَّةِ مِنْهُ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ (وَعَلَى الثَّانِي) أَيْ وَيُقَالُ فِي تَعْرِيفِ أُصُولِ الْفِقْهِ عَلَى أَنَّهُ مَوْضُوعٌ بِإِزَاءِ الْمُدْرَكِ (الْقَوَاعِدُ الَّتِي يُتَوَصَّلُ بِمَعْرِفَتِهَا) إلَى اسْتِنْبَاطِ الْفِقْهِ، وَإِنَّمَا حَذَفَهُ لِلْعِلْمِ بِهِ مَعَ قُرْبِ الْعَهْدِ حَتَّى لَوْ أُرِيدَ الِاقْتِصَارُ عَلَى تَعْرِيفِهِ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ وَجَبَ ذِكْرُ هَذَا الْمَحْذُوفِ ثُمَّ عَرَفْت أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ فِي هَذِهِ الْقَوَاعِدِ الْقَطْعُ وَلَا الْمُطَابَقَةُ، وَأَنَّ وَصْفَهَا بِكَوْنِهَا يُتَوَصَّلُ بِمَعْرِفَتِهَا تَوَصُّلًا قَرِيبًا إلَى اسْتِنْبَاطِ الْفِقْهِ مُخْرِجٌ لِمَا عَدَاهَا ثُمَّ لَا بَأْسَ أَنْ يُقَالَ تَوْضِيحًا (وَالْقَوَاعِدُ هُنَا) أَيْ فِي هَذَا التَّعْرِيفِ (مَعْلُومَاتٌ أَعْنِي الْمَفَاهِيمَ

<<  <  ج: ص:  >  >>