فَعَلَى الْمَنْهَجِ الَّذِي سَلَكَهُ الْمُصَنِّفُ الْمَسَائِلُ الَّتِي مَوْضُوعَاتُهَا أَعْمَالُ الْمُكَلَّفِينَ الَّتِي لَا تُقْصَدُ لِاعْتِقَادٍ، وَمَحْمُولَاتُهَا الْأَحْكَامُ الشَّرْعِيَّةُ الْقَطْعِيَّةُ مَعَ مَلَكَةِ الِاسْتِنْبَاطِ، وَعَلَى سَبِيلِ مَنْ خَصَّصَهُ بِالظَّنِّ إبْدَالُ الْقَطْعِيَّةِ بِالظَّنِّيَّةِ، وَعَلَى طَرِيقِ مَنْ جَعَلَ بَعْضَهُ قَطْعِيًّا وَبَعْضَهُ ظَنِّيًّا الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا.
وَأَمَّا التَّكْمِيلُ فَاعْلَمْ أَنَّ اسْمَ الْعِلْمِ كَمَا يُوضَعُ بِإِزَاءِ كُلٍّ مِنْ الْكَثْرَتَيْنِ الْمَذْكُورَتَيْنِ وَيُعَرَّفُ بِاعْتِبَارِ كُلٍّ مِنْهُمَا يُوضَعُ بِإِزَاءِ الْمَلَكَةِ وَيُعَرَّفُ بِاعْتِبَارِهَا كَمَا صَرَّحُوا بِهِ فِي شَرْحِ غَيْرِ مَا تَعْرِيفٍ بَلْ بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ بَعْضُ الْأَفَاضِلُ أَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ الْعِلْمَ حَقِيقَةٌ فِي الْإِدْرَاكِ مَجَازٌ فِي الْقَوَاعِدِ الْمُدْرَكَةِ إطْلَاقًا لِلْمَصْدَرِ عَلَى الْمَفْعُولِ، وَلَمْ يُجْعَلْ حَقِيقَةً فِيهَا تَرْجِيحًا لِلْمَجَازِ عَلَى الِاشْتِرَاكِ وَكَذَا إطْلَاقُ الْعِلْمِ عَلَى الْمَلَكَةِ مَجَازٌ إطْلَاقًا لِاسْمِ الْمُسَبِّبِ عَلَى السَّبَبِ أَوْ بِالْعَكْسِ قَالَ: وَقَدْ يُقَالُ يَتَبَادَرُ إلَى الْفَهْمِ مِنْ إطْلَاقِ الْعِلْمِ عَلَى الْعُلُومِ الْمُدَوَّنَةِ وَالصِّنَاعَاتِ الْمَلَكَةُ أَوْ الْقَوَاعِدُ مِنْ غَيْرِ اسْتِعَانَةٍ بِقَرِينَةٍ، وَهَذَا آيَةُ النَّقْلِ فَلَفْظُ الْعِلْمِ فِيهِمَا حَقِيقَةٌ عُرْفِيَّةٌ وَاصْطِلَاحِيَّةٌ اهـ. وَعَلَى هَذَا فَتَعْرِيفُهُمَا عَلَى مِنْهَاجِ الْمُصَنِّفِ أَنْ يُقَالَ: الْأُصُولُ الْمَلَكَةُ الْحَاصِلَةُ مِنْ الْقَوَاعِدِ الَّتِي يُتَوَصَّلُ بِمَعْرِفَتِهَا إلَى اسْتِنْبَاطِ الْفِقْهِ هَذَا إنْ أُرِيدَ بِالْفِقْهِ إحْدَى الْكَثْرَتَيْنِ فَإِنْ أُرِيدَ بِهِ الْمَلَكَةُ قِيلَ إلَى حُصُولِ الْفِقْهِ أَوْ إلَى الْفِقْهِ، وَالْفِقْهُ الْمَلَكَةُ الَّتِي يُتَوَصَّلُ بِهَا إلَى التَّصْدِيقِ بِالْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ الْقَطْعِيَّةِ لِأَعْمَالِ الْمُكَلَّفِينَ الَّتِي لَا تُقْصَدُ لِاعْتِقَادٍ وَلِاسْتِنْبَاطٍ.
(وَهَذَا) التَّعْرِيفُ (اسْمِيٌّ) وَكَذَا مَا تَقَدَّمَهُ وَكَأَنَّهُ إنَّمَا خَصَّصَهُ لِقُرْبِهِ وَظُهُورِ جَرَيَانِ هَذَا فِيمَا قَبْلَهُ أَيْضًا، وَإِنَّمَا كَانَتْ هَذِهِ حُدُودًا اسْمِيَّةً؛ لِأَنَّهَا تَعْرِيفُ مَفْهُومِ الِاسْمِ، وَمَا تَعَقَّلَهُ الْوَاضِعُ فَوَضَعَ الِاسْمَ بِإِزَائِهِ، وَهُوَ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ اسْمِيٌّ أَلْبَتَّةَ؛ لِأَنَّهُ جَوَابُ مَا الَّتِي لِطَلَبِ مَفْهُومِ الِاسْمِ، وَمُتَعَقِّلُ الْوَاضِعِ، وَهُوَ هُنَا لِإِفَادَةِ مَا وُضِعَ الِاسْمُ بِإِزَائِهِ بِلَفْظٍ يَشْتَمِلُ عَلَى تَفْصِيلِ مَا دَلَّ عَلَيْهِ الِاسْمُ إجْمَالًا، وَمِنْ ثَمَّةَ تَعَدَّدَ فِي الْمَعْنَى كَمَا فِي اللَّفْظِ وَلَوْ كَانَ حَدًّا ذَاتِيًّا تَامًّا لَمْ يَتَعَدَّدْ مَعْنًى؛ لِأَنَّ الشَّيْءَ لَا يَكُونُ لَهُ حَدَّانِ ذَاتِيَّانِ إلَّا مِنْ جِهَةِ الْعِبَارَةِ بِأَنْ يَذْكُرَ بَعْضَ الذَّاتِيَّاتِ بِالْمُطَابَقَةِ تَارَةً وَبِالتَّضَمُّنِ أُخْرَى بِخِلَافِ غَيْرِهِ فَإِنَّهُ جَائِزُ التَّعَدُّدِ نَعَمْ قَدْ يَكُونُ التَّعْرِيفُ الِاسْمِيُّ نَفْسَ حَقِيقَةِ ذَلِكَ الشَّيْءِ بِأَنْ يَكُونَ مُتَعَقِّلُ الْوَاضِعِ نَفْسَ الْحَقِيقَةِ فَيَتَحَدَّ التَّعْرِيفُ الِاسْمِيُّ وَالْحَقِيقِيُّ إلَّا أَنَّهُ قَبْلَ الْعِلْمِ بِوُجُودِ الشَّيْءِ يَكُونُ اسْمِيًّا وَبَعْدَ الْعِلْمِ بِوُجُودِهِ يَنْقَلِبُ حَقِيقِيًّا.
مَثَلًا: تَعْرِيفُ الْمُثَلَّثِ فِي مَبَادِئِ الْهَنْدَسَةِ بِشَكْلٍ يُحِيطُ بِهِ ثَلَاثَةُ أَضْلَاعٍ تَعْرِيفٌ اسْمِيٌّ وَبَعْدَ الدَّلَالَةِ عَلَى وُجُودِهِ بِالْبُرْهَانِ الْهَنْدَسِيِّ يَصِيرُ هُوَ بِعَيْنِهِ تَعْرِيفًا حَقِيقِيًّا فَلَا جَرَمَ أَنْ يُقَالَ (وَلَا يُنَافِي) التَّعْرِيفُ الِاسْمِيُّ التَّعْرِيفَ (الْحَقِيقِيَّ) ثُمَّ لَمَّا وَقَعَ التَّنْبِيهُ عَلَى هَذَا وَلَمْ يَثْبُتْ خِلَافٌ صَرِيحُ فِي جَوَازِ وُجُودِ الْحَقِيقِيِّ وَغَيْرِ الْحَقِيقِيِّ مِنْ حَيْثُ هُمَا وَلَا فِي جَوَازِ كَوْنِ غَيْرِ الْحَقِيقِيِّ مُقَدِّمَةً لِلشُّرُوعِ، وَإِنَّمَا ثَبَتَ فِي جَوَازِ الْحَقِيقِيِّ مُقَدِّمَةً لِلشُّرُوعِ أَشَارَ إلَى ذَلِكَ فَقَالَ: (وَاخْتُلِفَ فِيهِ) أَيْ فِي الْحَدِّ الْحَقِيقِيِّ حَيْثُ إنَّهُ هَلْ يَكُونُ (مُقَدِّمَةً لِلشُّرُوعِ) فِي الْعِلْمِ (وَلَا خِلَافَ فِي خِلَافِهِ كَمَا قِيلَ) أَيْ وَالْحَالُ أَنَّهُ لَا خِلَافَ فِي خِلَافِ الْحَقِيقِيِّ الْمَذْكُورِ مُقَدِّمَةٌ لِلشُّرُوعِ، وَهُوَ الْحَقِيقِيُّ الَّذِي لَمْ يُذْكَرْ مُقَدِّمَةً لَهُ فَإِنَّهُ جَائِزًا لِوُجُودٍ بِلَا خِلَافٍ عَلَى مَا قِيلَ (لِإِمْكَانِ تَصَوُّرِ مَا تَتَّصِفُ بِهِ) النَّفْسُ مِنْ تَصَوُّرٍ أَوْ تَصْدِيقٍ وَلَمَّا كَانَ تَصَوُّرُ التَّصْدِيقِ الَّذِي اتَّصَفَتْ بِهِ النَّفْسُ لَيْسَ بِهِ خَفَاءٌ إذْ لَا خَفَاءَ فِي إمْكَانِ تَصَوُّرِ النِّسْبَةِ الْوَاقِعَةِ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ وَاَلَّتِي لَيْسَتْ بِوَاقِعَةٍ بَيْنَهُمَا بِخِلَافِ التَّصَوُّرِ إذْ قَدْ يُسْتَبْعَدُ تَصَوُّرُهُ بِوَاسِطَةِ أَنَّ حُصُولَ الشَّيْءِ فِي النَّفْسِ هُوَ تَصَوُّرُهُ خَصَّهُ بِإِزَالَةِ الْوَهْمِ فَقَالَ (وَلَوْ) كَانَ ذَلِكَ الْوَصْفُ (تَصَوُّرًا إذْ الْحُصُولُ لَا يَسْتَلْزِمُهُ) أَيْ تَصَوُّرُ الْحَاصِلِ فَضْلًا عَنْ كَوْنِهِ نَفْسَ تَصَوُّرِهِ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وَحَاصِلُهُ أَنَّ الْحَدَّ تَصَوُّرُ ذَاتِ الْمَحْدُودِ إجْمَالًا وَغَايَةُ حَادِّ الْعِلْمِ أَنْ يَكُونَ مُتَّصِفًا بِالْعِلْمِ بِجَمِيعِ مَسَائِلِهِ، وَالِاتِّصَافُ بِالشَّيْءِ لَا يَسْتَلْزِمُ تَصَوُّرَهُ كَالشُّجَاعِ مُتَّصِفٌ بِالشُّجَاعَةِ، وَقَدْ لَا يَتَصَوَّرُهَا، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ أَمْكَنَ أَنْ يَتَعَلَّقَ مِنْ الْعَالِمِ بِالْمَسَائِلِ الْمُشْتَمِلَةِ عَلَى التَّصَوُّرَاتِ تَصَوُّرٌ لَهَا عَلَى سَبِيلِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute