الْجَبَانِ، وَالْأَسْوَدُ بِسَوَادِهِ مُمْتَازٌ عَنْ الْأَبْيَضِ، وَأَمَّا الْإِدْرَاكَاتُ فَإِنَّهَا تُوجِبُ لِمَحَالِّهَا تَمَيُّزًا عَنْ غَيْرِهَا عَلَى قِيَاسِ مَا مَرَّ، وَتُوجِبُ لَهَا أَيْضًا تَمْيِيزًا لِمُدْرَكَاتِهَا عَمَّا عَدَاهَا أَيْ تَجْعَلُهَا بِحَيْثُ تُلَاحَظُ مُدْرَكَاتُهَا وَتَمَيُّزُهَا عَمَّا سِوَاهَا فَظَهَرَ أَنَّ مَعْنَى الْإِيجَابِ مَا يُصَحِّحُ قَوْلَنَا إذَا وُجِدَ وُجِدَ وَلَا يَحْتَمِلُ النَّقِيضَ أَيْ لَا يَحْتَمِلُ مُتَعَلَّقُ التَّمْيِيزِ نَقِيضَ ذَلِكَ التَّمْيِيزِ بِوَجْهٍ مِنْ الْوُجُوهِ بِمَعْنَى أَنَّهُ غَيْرُ قَابِلٍ لِطُرُوِّ نَقِيضِ هَذَا التَّمْيِيزِ عَلَيْهِ عَلَى وَجْهٍ يُطَابِقُ الْوَاقِعَ يُخْرِجُ الصِّفَاتِ الْإِدْرَاكِيَّةِ الَّتِي تُوجِبُ لِمَحَلِّهَا تَمْيِيزًا يَحْتَمِلُ مُتَعَلَّقُهُ نَقِيضَهُ كَالظَّنِّ وَالشَّكِّ وَالْوَهْمِ فَإِنَّ مُتَعَلَّقَ التَّمْيِيزِ الْحَاصِلِ فِيهَا يَحْتَمِلُ نَقِيضَهُ بِلَا خَفَاءٍ، وَالْجَهْلُ الْمُرَكَّبُ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَطَّلِعَ صَاحِبُهُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ عَلَى مَا فِي الْوَاقِعِ فَيَزُولُ عَنْهُ مَا حُكِمَ بِهِ مِنْ الْإِيجَابِ وَالسَّلْبِ إلَى نَقِيضِهِ، وَفِي شَرْحِ الْمَقَاصِدِ، وَقَدْ يُقَالُ إنَّ الْجَهْلَ الْمُرَكَّبَ لَيْسَ بِتَمْيِيزٍ اهـ.
وَالتَّقْلِيدُ؛ لِأَنَّهُ يَزُولُ بِالتَّشْكِيكِ، وَفِي شَرْحِ الْمَقَاصِدِ بَلْ رُبَّمَا يَتَعَلَّقُ بِالنَّقِيضِ جَزْمًا، وَمُحَصَّلُ هَذَا كَمَا قَالَ الْمُحَقِّقُ الشَّرِيفُ فِي شَرْحِ الْمَوَاقِفِ أَنَّ الْعِلْمَ صِفَةٌ قَائِمَةٌ بِمَحَلِّ مُتَعَلَّقِهِ بِشَيْءٍ تُوجِبُ تِلْكَ الصِّفَةُ إيجَابًا عَادِيًا كَوْنُ مَحَلِّهَا مُمَيِّزًا لِلْمُتَعَلَّقِ تَمْيِيزًا لَا يَحْتَمِلُ ذَلِكَ الْمُتَعَلَّقِ نَقِيضَ ذَلِكَ التَّمْيِيزِ فَلَا بُدَّ مِنْ اعْتِبَارِ الْمَحَلِّ الَّذِي هُوَ الْعَالِمُ؛ لِأَنَّ التَّمْيِيزَ الْمُتَفَرِّعَ عَلَى الصِّفَةِ إنَّمَا هُوَ لَهُ لَا لِلصِّفَةِ وَلَا شَكَّ أَنْ تَمْيِيزَهُ إنَّمَا هُوَ لِشَيْءٍ تَتَعَلَّقُ بِهِ تِلْكَ الصِّفَةُ وَالتَّمْيِيزُ وَذَلِكَ الشَّيْءِ هُوَ الَّذِي لَا يَحْتَمِلُ النَّقِيضَ اهـ. لَكِنْ عَلَى هَذَا لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ فَلَا حَاجَةَ إلَى التَّجَوُّزِ بِالتَّمْيِيزِ عَنْ مُتَعَلَّقِهِ وَلَا إلَى تَقْدِيرِ مُتَعَلَّقِهِ مُسْنَدًا إلَيْهِ لَا يَحْتَمِلُ عَلَى أَنَّهُ لَا فَرْقَ فِي الْحَاصِلِ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ مُسْنَدًا إلَى مُتَعَلَّقِهِ مُرَادًا بِهِ مَا قَدَّمْنَاهُ أَوْ إلَيْهِ نَفْسُهُ حَقِيقَةً بِمَعْنَى أَنَّهُ غَيْرُ قَابِلٍ لِطُرُوِّ نَقِيضِهِ بَدَلَهُ عَلَى وَجْهٍ يُطَابِقُ الْوَاقِعَ قَالَ الْفَاضِلُ سَيْفُ الدِّينِ الْأَبْهَرِيُّ: وَهَذَا كَمَا يَقُولُ الْمُتَكَلِّمُونَ تَارَةً مَاهِيَّةُ الْمُمْكِنِ قَابِلَةٌ لِوُجُودِهَا وَتَارَةً وُجُودُ الْمُمْكِنِ قَابِلٌ لِعَدَمِهِ، وَمَآلُ الْعِبَارَتَيْنِ وَاحِدٌ ثُمَّ هَذَا الْحَدُّ يَتَنَاوَلُ التَّصْدِيقَ الْيَقِينِيَّ وَالتَّصَوُّرَ كَمَا أَشَارَ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ (فَيَدْخُلُ) أَيْ التَّصَوُّرُ فِي حَدِّ الْعِلْمِ إذْ لَا نَقِيضَ لِلتَّصَوُّرِ عَلَى مَا هُوَ الْمَشْهُورُ بِنَاءً عَلَى أَنَّ النَّقِيضِينَ هُمَا الْمَفْهُومَانِ الْمُتَمَانِعَانِ لِذَاتَيْهِمَا، وَلَا تَمَانُعَ بَيْنَ التَّصَوُّرَاتِ فَمَفْهُومَا الْإِنْسَانِ وَاللَّا إنْسَانِ مَثَلًا لَا تَمَانُعَ بَيْنَهُمَا إلَّا إذَا اعْتَبَرَ ثُبُوتَهُمَا لِشَيْءٍ فَحِينَئِذٍ يَحْصُلُ هُنَاكَ قَضِيَّتَانِ مُتَنَافِيَتَانِ صِدْقًا، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ لِلتَّصَوُّرِ نَقِيضٌ صَدَقَ أَنَّ مُتَعَلَّقَهُ لَا يَحْتَمِلُ النَّقِيضَ بِوَجْهٍ أَيْضًا فَإِذَا تَصَوَّرْنَا مَاهِيَّةَ الْإِنْسَانِ وَحَصَلَ فِي ذِهْنِنَا صُورَةً مُطَابِقَةً لَهَا فَالتَّمْيِيزُ هُنَا هُوَ تِلْكَ الصُّورَةُ إذْ بِهَا تَمْتَازُ وَتَنْكَشِفُ الْمَاهِيَّةُ وَلَا تَحْتَمِلُ نَقِيضَ ذَلِكَ التَّمْيِيزِ إذْ لَا نَقِيضَ لَهُ.
وَعَلَى هَذَا فَالْعِلْمُ بِالْإِنْسَانِ لَيْسَ تِلْكَ الصُّورَةَ بَلْ صِفَةٌ تُوجِبُهَا وَلَا يُقَالُ فَعَلَى هَذَا جَمِيعُ التَّصَوُّرَاتِ عُلُومٌ مَعَ أَنَّ بَعْضَهَا غَيْرُ مُطَابِقٍ؛ لِأَنَّا نَقُولُ لَا يُوصَفُ التَّصَوُّرُ بِعَدَمِ الْمُطَابَقَةِ أَصْلًا فَإِنَّا إذَا رَأَيْنَا مِنْ بَعِيدٍ شَبَحًا هُوَ حَجَرٌ مَثَلًا وَحَصَلَ مِنْهُ فِي أَذْهَانِنَا صُورَةُ إنْسَانٍ فَتِلْكَ الصُّورَةُ صُورَةُ الْإِنْسَانِ وَالْعِلْمُ بِهِ تَصَوُّرِيٌّ وَالْخَطَأُ إنَّمَا هُوَ فِي حُكْمِ الْعَقْلِ بِأَنَّ هَذِهِ الصُّورَةَ لِلشَّبَحِ الْمَرْئِيِّ فَالتَّصَوُّرَاتُ كُلُّهَا مُطَابِقَةٌ لِمَا هِيَ تَصَوُّرَاتٌ لَهُ مَوْجُودًا كَانَ أَوْ مَعْدُومًا مُمْكِنًا كَانَ أَوْ مُمْتَنِعًا، وَعَدَمُ الْمُطَابَقَةِ فِي أَحْكَامِ الْعَقْلِ الْمُقَارَنَةُ لِتِلْكَ التَّصَوُّرَاتِ فَلَا إشْكَالَ، وَإِلَى مَعْنَى هَذَا أَشَارَ بِقَوْلِهِ: (وَعَدَمُ الْمُطَابَقَةِ) لِلْوَاقِعِ (فِي تَصَوُّرِ الْإِنْسَانِ) حَيَوَانًا (صَهَّالًا) ؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ فِي الْوَاقِعِ حَيَوَانٌ نَاطِقٌ لَا صَهَّالٌ إنَّمَا هُوَ (لِلْحُكْمِ) الْعَقْلِيِّ (الْمُقَارِنِ) لِتَصَوُّرِ الْإِنْسَانَ حَيَوَانًا صَهَّالًا بِأَنَّ الصُّورَةَ الْمُتَصَوَّرَةَ لِلْإِنْسَانِ حَيَوَانٌ صَهَّالٌ لَا غَيْرُ (أَمَّا الصُّورَةُ) الْحَاصِلَةُ فِي الذِّهْنِ الَّتِي الْعِلْمُ بِهَا تَصَوُّرِيٌّ (فَلَا تَحْتَمِلُ غَيْرَهَا) أَيْ غَيْرَ نَفْسِهَا، وَفِي هَذَا تَعْرِيضٌ بِرَدِّ مَا فِي حَاشِيَةِ الْمُحَقِّقِ التَّفْتَازَانِيِّ عَلَى شَرْحِ الْقَاضِي عَضُدِ الدِّينِ مُخْتَصَرَ ابْنِ الْحَاجِبِ تَعَقُّبًا لِلْقَوْلِ بِأَنَّ مَعْنَى لَا نَقِيضَ لِلتَّصَوُّرِ أَنَّهُ لَا نَقِيضَ لِمُتَعَلَّقِهِ؛ لِأَنَّ نَقِيضَ الشَّيْءِ رَفْعُهُ وَسَلْبُهُ فَفِيهِ شَائِبَةُ الْحُكْمِ وَالتَّصْدِيقِ مِنْ أَنَّ هَذَا يُبْطِلُ كَثِيرًا مِنْ قَوَاعِدِ الْمَنْطِقِ وَيُوجِبُ شُمُولَ التَّعْرِيفِ لِجَمِيعِ التَّصَوُّرَاتِ الْغَيْرِ الْمُطَابَقَةِ كَمَا إذَا تَعَقَّلَ الْإِنْسَانُ حَيَوَانًا صَهَّالًا اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يُقَالَ إنَّهُ لَيْسَ بِتَمْيِيزٍ اهـ.
نَعَمْ إنْ قِيلَ الْمُتَنَاقِضَانِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute