نِعْمَةِ الْمَالِ الَّذِي هُوَ شَقِيقُ الرُّوحِ ثُمَّ الصَّوْمُ قَالُوا: لِأَنَّهُ شُرِعَ رِيَاضَةً وَقَهْرًا لِلنَّفْسِ بِكَفِّهَا عَنْ شَهْوَتَيْ الْبَطْنِ وَالْفَرْجِ فَإِنَّ النَّفْسَ بِقَهْرِهَا وَرِيَاضَتِهَا تَصْلُحُ لِلْخِدْمَةِ فَكَانَ قُرْبَةً بِوَاسِطَةِ النَّفْسِ وَهِيَ دُونَ الْوَاسِطَةِ فِي الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ فِي الْمَنْزِلَةِ لِأَنَّ الْوَاسِطَةَ فِي الصَّلَاةِ الْكَعْبَةُ الْمُعَظَّمَةُ وَإِنَّمَا يَسْقُطُ التَّوَجُّهُ إلَيْهَا عِنْدَ الْعُذْرِ لَا غَيْرَ وَفِي الزَّكَاةِ الْفَقِيرُ الَّذِي لَهُ ضَرْبُ اسْتِحْقَاقٍ فِي الصَّرْفِ إلَيْهِ فَكَانَ دُونَهُمَا فِي الْمَرْتَبَةِ وَلَا يَخْفَى مَا فِيهِ عَلَى أَنَّ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ لَهُ الْحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا إلَى سَبْعِمِائَةِ ضَعْفٍ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ إلَّا الصِّيَامُ فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ» وَفِي رِوَايَةٍ «كُلُّ عَمَلِ بْنِ آدَمَ لَهُ إلَّا الصِّيَامُ فَإِنَّهُ لِي» وَمِنْ هُنَا ذَهَبَ بَعْضُهُمْ إلَى أَنَّهُ أَفْضَلُ عِبَادَاتِ الْبَدَنِ إلَّا أَنَّهُ يَطْرُقُهُ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَخْتَصَّ الْمَفْضُولُ بِمَا لَيْسَ لِلْفَاضِلِ أَلَا تَرَى أَنَّ الشَّيْطَانَ يَفِرُّ مِنْ الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ وَلَا يَفِرُّ مِنْ الصَّلَاةِ مَعَ أَنَّهَا أَفْضَلُ مِنْهُمَا ثُمَّ الْحَجُّ
قَالُوا: لِأَنَّهُ عِبَادَةُ هِجْرَةٍ وَسَفَرٍ لَا يَتَأَدَّى إلَّا بِأَفْعَالٍ يَقُومُ بِهَا بِبِقَاعٍ مُعَظَّمَةٍ وَكَأَنَّهُ وَسِيلَةٌ إلَى الصَّوْمِ لِأَنَّ بِمَا فِيهِ مِنْ هَجْرِ الْوَطَنِ وَمُفَارَقَةِ الْخِلَّانِ وَالسَّكَنِ تَنْقَطِعُ عَنْهُ مُرَادُ الشَّهَوَاتِ وَتَضْعُفُ نَفْسُهُ فَيَتَيَسَّرَ لَهُ قَهْرُهَا بِالصَّوْمِ وَلَا يَخْفَى مَا فِيهِ بَلْ ذَهَبَ الْقَاضِي حُسَيْنُ مِنْ الشَّافِعِيَّةِ إلَى أَنَّهُ أَفْضَلُ عِبَادَاتِ الْبَدَنِ لِاشْتِمَالِهِ عَلَى الْمَالِ وَالْبَدَنِ وَأَيْضًا دُعِينَا إلَيْهِ فِي أَصْلَابِ الْآبَاءِ وَأَرْحَامِ الْأُمَّهَاتِ كَالْإِيمَانِ وَهُوَ أَفْضَلُ فَكَذَا الْحَجُّ الَّذِي هُوَ قَرِينُهُ وَفِيهِ مَا هُوَ غَيْرُ خَافٍ عَلَى الْمُحَقِّقِ عَلَى أَنَّ فِي الْكَشَّافِ وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ كَانَ يُفَاضِلُ بَيْنَ الْعِبَادَاتِ قَبْلَ أَنْ يَحُجَّ فَلَمَّا حَجَّ فَضَّلَ الْحَجَّ عَلَى الْعِبَادَاتِ كُلِّهَا لِمَا شَاهَدَ مِنْ تِلْكَ الْخَصَائِصِ (قَالُوا: وَقُدِّمَتْ الْعُمْرَةُ وَهِيَ سُنَّةٌ عَلَى الْجِهَادِ) وَإِنْ كَانَ فِي الْأَصْلِ فَرْضُ عَيْنٍ لِأَنَّهُ شُرِعَ لِإِعْلَاءِ الدِّينِ وَهُوَ فَرْضٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ ثُمَّ صَارَ فَرْضَ كِفَايَةٍ لِكَوْنِ الْمَقْصُودِ وَهُوَ كَسْرُ شَوْكَةِ الْمُشْرِكِينَ وَدَفْعُ أَذَاهُمْ عَنْ الْمُسْلِمِينَ يَحْصُلُ بِالْبَعْضِ (لِأَنَّهَا مِنْ تَوَابِعِ الْحَجِّ) وَأَفْعَالِهَا مِنْ جِنْسِ أَفْعَالِهِ (وَلَا يَخْفَى مَا فِيهِ) أَيْ هَذَا التَّوْجِيهِ لِتَقْدِيمِهَا عَلَيْهِ فَإِنَّهُ لَيْسَ بِمُقْتَضٍ لِذَلِكَ وَلَعَلَّ لِهَذَا ذَكَرَهُ بَعْضُهُمْ بَعْدَ الْحَجِّ وَلَمْ يَذْكُرْهَا أَصْلًا ثُمَّ الْجِهَادُ لِمَا ذَكَرْنَا فَكَانَ دُونَ مَا سَبَقَ لِأَنَّ فَرْضَ الْكِفَايَةِ دُونَ فَرْضِ الْعَيْنِ وَفِيهِ مَا لَا يَخْفَى عَلَى أَنَّ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَفْضَلُ الْأَعْمَالِ إيمَانٌ بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ جِهَادٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ حَجٌّ مَبْرُورٌ» وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ «أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا الْإِسْلَامُ: قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يَسْلَمَ قَلْبُكَ وَأَنْ يَسْلَمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِكَ وَيَدِكَ قَالَ: فَأَيُّ الْإِسْلَامِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: الْإِيمَانُ قَالَ: وَمَا الْإِيمَانُ؟ قَالَ: أَنْ تُؤْمِنَ بِاَللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْبَعْثِ بَعْدَ الْمَوْتِ، قَالَ: فَأَيُّ الْإِيمَانِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: الْهِجْرَةُ قَالَ: وَمَا الْهِجْرَةُ؟ قَالَ: أَنْ تَهْجُرَ السُّوءَ قَالَ: فَأَيُّ الْهِجْرَةِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: الْجِهَادُ قَالَ: وَمَا الْجِهَادُ؟ قَالَ: أَنْ تُقَاتِلَ الْكُفَّارَ إذَا لَقِيتَهُمْ قَالَ: فَأَيُّ الْجِهَادِ أَفْضَلُ؟ قَالَ مَنْ عُقِرَ جَوَادُهُ وَأُهْرِيقَ دَمُهُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثُمَّ عَمَلَانِ هُمَا أَفْضَلُ الْأَعْمَالِ إلَّا مَنْ عَمِلَ بِمِثْلِهِمَا حَجَّةٌ مَبْرُورَةٌ أَوْ عُمْرَةٌ مَبْرُورَةٌ»
وَمِنْ هُنَا ذَهَبَ بَعْضُهُمْ إلَى أَنَّ الْجِهَادَ أَفْضَلُ عِبَادَاتِ الْبَدَنِ وَقَدْ يُجَابُ عَنْ هَذَا تَارَةً بِأَنَّ فَرْضَ الْحَجِّ تَأَخَّرَ إلَى السَّنَةِ التَّاسِعَةِ عِنْدَ كَثِيرٍ مِنْ الْعُلَمَاءِ وَكَانَ الْجِهَادُ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ فَرْضَ عَيْنٍ فَلَعَلَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ هَذَا قَبْلَ فَرْضِ الْحَجِّ وَلَا إشْكَالَ فِي أَفْضَلِيَّةِ الْجِهَادِ الْمَفْرُوضِ عَيْنًا عَلَى الْحَجِّ الْمُتَطَوَّعِ بِهِ وَتَارَةً بِأَنَّ جِنْسَ الْجِهَادِ أَشْرَفُ مِنْ جِنْسِ الْحَجِّ فَإِنْ عَرَضَ لِلْحَجِّ وَصْفٌ يَمْتَازُ بِهِ عَلَى الْجِهَادِ صَارَ ذَلِكَ الْحَجُّ الْمَخْصُوصُ أَفْضَلَ مِنْ الْجِهَادِ وَإِلَّا فَالْجِهَادُ أَفْضَلُ وَيَشْهَدُ لِصَدْرِ هَذَا ظَاهِرُ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «وَاَلَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ مَا شَحُبَ وَجْهٌ وَلَا اغْبَرَّتْ قَدَمٌ فِي عَمَلٍ يُبْتَغَى فِيهِ دَرَجَاتُ الْآخِرَةِ بَعْدَ الصَّلَاةِ الْمَفْرُوضَةِ كَجِهَادٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ» رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْبَزَّارُ وَمِنْ هُنَا وَمِمَّا صَحَّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ حِكَايَةً عَنْ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ «وَمَا تَقَرَّبَ إلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ» كَمَا فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ قَالَ: وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ مِنْ الْعُلَمَاءِ إنَّ الْجِهَادَ أَفْضَلُ الْأَعْمَالِ بَعْدَ الْفَرَائِضِ اهـ أَيْ: عَلَى الْأَعْيَانِ وَحِينَئِذٍ فَيُوَافِقُهُ مَا فِي قَوَاعِدِ الْقَرَافِيُّ قَالَ مَالِكٌ: الْحَجُّ أَفْضَلُ مِنْ الْغَزْوِ لِأَنَّ الْغَزْوَ فَرْضُ كِفَايَةٍ وَالْحَجَّ فَرْضُ عَيْنٍ وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يُكْثِرُ الْحَجَّ وَلَا يَحْضُرُ الْغَزْوَ اهـ وَيُشْكِلُ عَجْزَهُ بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute