للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

«حَجَّةٌ لِمَنْ لَمْ يَحُجَّ خَيْرٌ مِنْ عَشْرِ غَزَوَاتٍ وَغَزْوَةٌ لِمَنْ قَدْ حَجَّ خَيْرٌ مِنْ عَشَرِ حِجَجٍ» رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ مِنْ رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ صَالِحٍ كَاتِبِ اللَّيْثِ وَثَّقَهُ ابْنُ مَعِينٍ وَاحْتَجَّ بِهِ الْبُخَارِيُّ وَقَدْ ظَهَرَ مِنْ هَذِهِ الْجُمْلَةِ أَنَّهُ لَا يَتِمُّ مَا فِي الْإِحْيَاءِ مِنْ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ إطْلَاقُ الْقَوْلِ بِأَفْضَلِيَّةِ بَعْضِ الْعِبَادَاتِ عَلَى بَعْضٍ كَمَا لَا يَصِحُّ إطْلَاقُ الْقَوْلِ بِأَنَّ الْخُبْزَ أَفْضَلُ مِنْ الْمَاءِ فَإِنَّ ذَلِكَ مَخْصُوصٌ بِالْجَائِعِ وَالْمَاءُ أَفْضَلُ لِلْعَطْشَانِ فَإِنْ اجْتَمَعَا نُظِرَ إلَى الْأَغْلَبِ فَتَصَدُّقُ الْغَنِيِّ الشَّدِيدِ الْبُخْلِ بِدِرْهَمٍ أَفْضَلُ مِنْ قِيَامِ لَيْلَةٍ وَصِيَامِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ لِمَا فِيهِ مِنْ دَفْعِ حُبِّ الدُّنْيَا

وَالصَّوْمُ لِمَنْ اسْتَحْوَذَتْ عَلَيْهِ شَهْوَةُ الْأَكْلِ أَفْضَلُ وَلَا مَا قَالَ النَّوَوِيُّ مِنْ أَنَّ لَيْسَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِمْ الصَّلَاةُ أَفْضَلُ مِنْ الصَّوْمِ أَنَّ صَلَاةَ رَكْعَتَيْنِ أَفْضَلُ مِنْ صَوْمِ أَيَّامٍ أَوْ يَوْمٍ فَإِنَّ صَوْمَ يَوْمٍ أَفْضَلُ مِنْ رَكْعَتَيْنِ وَإِنَّمَا مَعْنَاهُ أَنَّ مَنْ أَمْكَنَهُ الِاسْتِكْثَارَ مِنْ الصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ وَأَرَادَ أَنْ يَسْتَكْثِرَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَيَقْتَصِرَ مِنْ الْآخَرِ عَلَى الْمُتَأَكِّدِ فَهَذَا مَحَلُّ الْخِلَافِ اهـ ثُمَّ بَعْد هَذَا كُلِّهِ لَا خَفَاءَ فِي أَنَّ الْفَرْضَ مِنْ كُلِّ جِنْسٍ أَفْضَلُ مِنْ نَفْلِهِ وَقَوْلُ الشَّيْخِ عِزِّ الدِّينِ بْنِ عَبْدِ السَّلَامِ ثُمَّ الْقَرَافِيُّ أَنَّ الْمَنْدُوبَ قَدْ يَفْضُلُ الْوَاجِبَ كَمَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ شَاةٌ فَأَخْرَجَهَا وَتَطَوَّعَ بِشَاتَيْنِ فَإِنَّ الشَّاتَيْنِ أَفْضَلُ لِأَنَّ الْمَصْلَحَةَ الْحَاصِلَةَ لِلْفُقَرَاءِ بِالشَّاتَيْنِ أَوْسَعُ فِيهِ نَظَرٌ ظَاهِرٌ وَكَيْفَ لَا وَمَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ قَوْلِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى «وَمَا تَقَرَّبَ إلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْت عَلَيْهِ» وَمَا رَوَى ابْنُ خُزَيْمَةَ فِي صَحِيحِهِ أَنَّ الْوَاجِبَ يَفْضُلُ الْمَنْدُوبَ بِسَبْعِينَ دَرَجَةً يَنْفِيهِ عَلَى أَنَّهُ قَدْ أَخْرَجَ النَّسَائِيُّ «سَبَقَ دِرْهَمٌ مِائَةَ أَلْفٍ» مَعَ أَنَّ التَّوْسِعَةَ بِالْأَلْفِ أَعْظَمُ مِنْهَا بِالْوَاحِدِ وَإِنَّمَا الشَّأْنُ فِي فَرْضِ كُلِّ جِنْسٍ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْفَرَائِضِ مِنْ بَاقِي الْأَجْنَاسِ وَلِلْبَاحِثِ الْمُحَقِّقِ فِي ذَلِكَ مَجَالٌ فَوْقَ مَا قَدَّمْنَاهُ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِحَقِيقَةِ الْحَالِ.

ثُمَّ الِاعْتِكَافِ لِأَنَّهُ سُنَّةٌ أَوْ مُسْتَحَبٌّ وَشُرِعَ لِتَكْثِيرِ الصَّلَاةِ حَقِيقَةً أَوْ حُكْمًا بِانْتِظَارِهَا فِي مَكَانِهَا وَهُوَ الْمَسَاجِدُ عَلَى صِفَةِ الِاسْتِعْدَادِ لَهَا مِنْ الطَّهَارَةِ وَغَيْرِهَا فَإِنَّ الْمُنْتَظِرَ لَهَا فِيهَا حُكْمًا وَلِذَا اخْتَصَّ بِالْمَسَاجِدِ وَشَوَاهِدُهُ مِنْ السُّنَّةِ مَسْطُورَةٌ فِي مَوَاضِعِهَا فَكَانَ دُونَ مَا تَقَدَّمَ فِي الْمَرْتَبَةِ إلَّا أَنَّ قَوْلَهُمْ فَكَانَ مِنْ تَوَابِعِ الصَّلَاةِ يُشْكِلُ بِتَعْلِيلِهِمْ تَقْدِيمَ الْعُمْرَةِ عَلَى الْجِهَادِ بِكَوْنِهَا مِنْ تَوَابِعِ الْحَجِّ لَوْ صَحَّ كَوْنُهَا مِنْ تَوَابِعِهِ ثُمَّ هَذَا مِمَّا يُوَضِّحُ أَنَّ كَوْنَ الشَّيْءِ مِنْ تَوَابِعِ الشَّيْءِ لَا يَسْتَلْزِمُ أَلْبَتَّةَ كَوْنُهُ أَفْضَلُ مِمَّا الْمَتْبُوعُ أَفْضَلُ مِنْهُ فَلْيُتَأَمَّلْ وَهَذَا هُوَ الْقِسْمُ الْأَوَّلُ (وَعِبَادَةٌ فِيهَا مَعْنَى الْمُؤْنَةِ) وَهِيَ فَعُولَةٌ عَلَى الْأَصَحِّ مِنْ مَأَنْت الْقَوْمَ أَمَأْنَهُمْ إذَا احْتَمَلْت ثِقَلَهُمْ أَوْ مِنْ أَتَانِي فُلَانٌ وَمَا مَأَنْت لَهُ مَأْنًا إذَا لَمْ تَسْتَعِدْ لَهُ وَقِيلَ مُفْعَلَةٌ مِنْ الْأَوْنِ وَهُوَ أَحَدُ جَانِبَيْ الْخُرْجِ لِأَنَّهُ ثِقَلٌ أَوْ مِنْ الْأَيْنِ وَهُوَ التَّعَبُ وَالشِّدَّةُ وَهَذِهِ الْعِبَادَةُ (صَدَقَةُ الْفِطْرِ) وَكَوْنُهَا عِبَادَةً ظَاهِرٌ مِنْ كَوْنِهَا شَرْعًا صَدَقَةً وَطُهْرَةً لِلصَّائِمِ عَنْ اللَّغْوِ وَالرَّفَثِ كَمَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَهْ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا وَمِنْ اعْتِبَارِ صِفَةِ الْغِنَى فِيمَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ وَاشْتِرَاطِ النِّيَّةِ فِي الْأَدَاءِ وَوُجُوبِ صَرْفِهَا فِي مَصَارِفِ الصَّدَقَاتِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ وَكَوْنِهَا فِيهَا مَعْنَى الْمُؤْنَةِ (إذْ وَجَبَتْ) عَلَى الْمُكَلَّفِ (بِسَبَبِ غَيْرِهِ) وَهُوَ مَنْ يَلِيهِ وَيُمَوِّنُهُ كَمَا أَشَارَ إلَيْهِ مَا رَوَى الْبَيْهَقِيُّ الدَّارَقُطْنِيّ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ «أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِصَدَقَةِ الْفِطْرِ عَنْ الصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ وَالْحُرِّ وَالْعَبْدِ مِمَّنْ تَمُونُونَ فَإِنَّ الْعِبَادَةَ لَا تَجِبُ عَلَى الْغَيْرِ بِسَبَبِ الْغَيْرِ» (فَلَمْ يَشْرُطْ لَهَا كَمَالَ الْأَهْلِيَّةِ) كَمَا شَرَطَ لِلْعِبَادَاتِ الْخَالِصَةِ لِقُصُورِ مَعْنَى الْعِبَادَةِ فِيهَا (فَوَجَبَتْ فِي مَالِ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ) الْغَنِيَّيْنِ عَنْ أَنْفُسِهِمَا وَرَقِيقِهِمَا يَتَوَلَّى أَدَاءَهَا الْأَبُ ثُمَّ وَصِيُّهُ ثُمَّ الْجَدُّ ثُمَّ وَصِيُّهُ ثُمَّ وَصِيٌّ نَصَّبَهُ الْقَاضِي عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ (خِلَافًا لِمُحَمَّدٍ وَزُفَرَ) وَهُوَ الْقِيَاسُ لِسُقُوطِ الْخِطَابِ عَنْهُمَا يُرَجِّحَانِ مَعْنَى الْعِبَادَةِ فِيهَا وَإِنَّمَا اسْتَحْسَنَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ الْوُجُوبَ إلْحَاقًا لَهَا بِمَا فِيهَا مِنْ مَعْنَى الْمُؤْنَةِ بِنَفَقَةِ ذِي الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ مِنْهُمَا فَإِنَّهَا تَجِبُ فِي مَالِهِمَا إذَا كَانَا غَنِيَّيْنِ بِاتِّفَاقِهِمْ لَكِنْ كَمَا قَالَ صَاحِبُ الْكَشْفِ ثُمَّ تِلْمِيذُهُ قِوَامُ الدِّينِ الْكَاكِيُّ كَلَامُ مُحَمَّدٍ وَزُفَرَ أَوْضَحُ ثُمَّ ظَهَرَ وَجْهُ كَوْنِهَا عِبَادَةً فِيهَا مَعْنَى الْمُؤْنَةِ دُونَ الْعَكْسِ وَهَذَا الْقِسْمُ الثَّانِي (وَمُؤْنَةٌ فِيهَا مَعْنَى الْقُرْبَةِ كَالْعُشْرِ إذْ الْمُؤْنَةُ مَا بِهِ بَقَاءُ الشَّيْءِ وَبَقَاءُ الْأَرْضِ فِي أَيْدِينَا بِهِ) أَيْ بِالْعُشْرِ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى حَكَمَ بِبَقَاءِ الْعَالَمِ إلَى الْوَقْتِ الْمَوْعُودِ وَهُوَ

<<  <  ج: ص:  >  >>