تَعْرِيفًا بِحَسَبِ الِاسْمِ فَإِذَا عُلِمَ مَثَلًا مَفْهُومُ الْجِنْسِ إجْمَالًا، وَأُرِيدَ تَصَوُّرُهُ بِوَجْهٍ أَكْمَلَ فَإِنْ فَصَلَ نَفْسَ مَفْهُومِهِ بِأَجْزَاءٍ كَانَ ذَلِكَ حَدًّا لَهُ اسْمِيًّا، وَإِنْ ذَكَرَ فِي تَعْرِيفِهِ عَوَارِضَهُ كَانَ لَهُ رَسْمًا اسْمِيًّا. ثَانِيهِمَا مَا يُقْصَدُ بِهِ تَصَوُّرُ حَقَائِقَ مَوْجُودَةٍ وَيُسَمَّى تَعْرِيفًا بِحَسَبِ الْحَقِيقَةِ إمَّا حَدًّا أَوْ رَسْمًا وَكِلَا هَذَيْنِ الْقِسْمَيْنِ لَا يَتَّجِهُ عَلَيْهِ مَنْعٌ؛ لِأَنَّ التَّحْدِيدَ تَصْوِيرٌ وَنَقْشٌ لِصُورَةِ الْمَحْدُودِ فِي الذِّهْنِ وَلَا حُكْمَ فِيهِ أَصْلًا.
وَالْحَادُّ إنَّمَا ذَكَرَ الْمَحْدُودَ لِيَتَوَجَّهَ الذِّهْنُ إلَى مَا هُوَ مَعْلُومٌ بِوَجْهٍ مَا ثُمَّ يَرْسِمُ فِيهِ صُورَةً أَتَمَّ مِنْ الْأُولَى لَا لِيَحْكُمَ بِالْحَدِّ عَلَيْهِ إذْ لَيْسَ هُوَ بِصَدَدِ التَّصْدِيقِ بِثُبُوتِهِ لَهُ. مَثَلًا إذَا قَالَ الْإِنْسَانُ حَيَوَانٌ نَاطِقٌ لَمْ يَقْصِدْ بِهِ أَنْ يَحْكُمَ عَلَى الْإِنْسَانِ بِكَوْنِهِ حَيَوَانًا نَاطِقًا، وَإِلَّا لَكَانَ مُصَدِّقًا لَا مُصَوِّرًا بَلْ إنَّمَا أَرَادَ بِذِكْرِ الْإِنْسَانِ أَنْ يَتَوَجَّهَ ذِهْنُك إلَى مَا عَرَفْته بِوَجْهٍ مَا ثُمَّ شَرَعَ فِي تَصْوِيرِهِ بِوَجْهٍ أَكْمَلَ فَمَا مِثْلُهُ إلَّا كَمِثْلِ النَّقَّاشِ إلَّا أَنَّ الْحَادَّ يَنْقُشُ فِي الذِّهْنِ صُورَةً مَعْقُولَةً، وَهَذَا يَنْقُشُ فِي اللَّوْحِ صُورَةً مَحْسُوسَةً فَكَمَا أَنَّهُ إذَا أَخَذَ يَرْسِمُ فِيهِ نَقْشًا لَمْ يَتَوَجَّهْ عَلَيْهِ مَنْعٌ فَلَا يُقَالُ مَثَلًا لَا نُسَلِّمُ كِتَابَتَك كَذَا لَا يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْإِنْسَانَ حَيَوَانٌ نَاطِقٌ؛ لِأَنَّهُ جَارٍ مَجْرَاهُ فَاتَّضَحَ أَنَّ الْحَدَّ مَعَ الْمَحْدُودِ لَيْسَ قَضِيَّةً فِي الْحَقِيقَةِ، وَإِنْ كَانَ عَلَى صُورَتِهَا.
وَأَمَّا مَا اُشْتُهِرَ فِي أَلْسِنَةِ الْعُلَمَاءِ أَنْ لَا نُسَلِّمَ أَنَّهُ حَدٌّ لِمَا حَدَّدْتُمُوهُ بِهِ فَهَذَا مَنْعٌ عَلَيْهِ فَأُجِيبَ بِأَنَّ الْحَدَّ لَهُ مَفْهُومٌ، وَمَا صَدَقَ عَلَيْهِ وَالْمَنْعُ بِتَوَجُّهٍ عَلَى الثَّانِي لَا الْأَوَّلِ فَفِي الْمِثَالِ الْمَذْكُورِ لَا يَمْنَعُ كَوْنَهُ نَاطِقًا بَلْ يَمْنَعُ كَوْنَهُ جَدًّا لِلْإِنْسَانِ أَوْ أَنَّ الْحَيَوَانَ جِنْسٌ لَهُ أَوْ النَّاطِقُ فَصْلٌ لَهُ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ فَإِنَّ هَذِهِ الدَّعَاوَى صَادِرَةٌ عَنْهُ ضِمْنًا، وَقَابِلَةٌ لِلْمَنْعِ بِاعْتِبَارِ مَا لَزِمَ عَنْهَا مِنْ الْحُكْمِ وَبِهَذَا الِاعْتِبَارِ يَتَّجِهُ أَيْضًا عَلَى الْحَدِّ النَّقْضُ وَالْمُعَارَضَةُ فَإِذَا قِيلَ مَثَلًا الْعِلْمُ مَا يَصِحُّ مِنْ الْمَوْصُوفِ بِهِ إحْكَامُ الْفِعْلِ يُقَالُ هَذَا مَنْقُوضٌ بِالْوَاجِبَاتِ وَالْمُسْتَحِيلَات فَإِنْ سَلَّمَ الْحَادُّ وُجُودَ الْعِلْمِ الْمُتَعَلَّقِ بِهِمَا فَقَدْ اعْتَرَفَ بِبُطْلَانِ حَدِّهِ، وَفَسَادِ نَقْشِهِ وَإِلَّا فَلَا، وَيُقَالُ أَيْضًا هَذَا مُعَارَضٌ بِأَنَّهُ الِاعْتِقَادُ الْمُقْتَضِي لِسُكُونِ النَّفْسِ فَإِنْ سَلَّمَ الْحَدُّ الثَّانِي بَطَلَ حَدُّهُ، وَإِلَّا فَلَا إذْ لَا تَعَانُدَ بَيْنَ مَفْهُومَيْ هَذَيْنِ الْحَدَّيْنِ بَلْ كُلٌّ مِنْهُمَا مَفْهُومٌ عَلَى حِدَةٍ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
ثُمَّ أَفَادَ مَا يَكُونُ لِلْحَادِّ إذَا مَنَعَ حَدَّهُ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَتَوَجَّهُ لَهُ دَفْعُهُ فَقَالَ (وَيُدْفَعُ) الْمَنْعُ (فِي الِاسْمِيِّ بِالنَّقْلِ) عَنْ أَهْلِ اللُّغَةِ إنْ كَانَ لُغَوِيًّا، وَعَنْ أَهْلِ الشَّرْعِ إنْ كَانَ شَرْعِيًّا، وَعَلَى هَذَا الْقِيَاسُ فَإِذَا أَتَى الْحَادُّ بِهِ فَقَدْ تَمَّ مَطْلُوبُهُ (وَفِي) مَنْعِ الْحَدِّ (الْحَقِيقِيِّ الْعَجْزُ لَازِمٌ) لِلْحَادِّ لَكِنْ (لَا لِمَا قِيلَ لَا يُكْتَسَبُ الْحَدُّ) الْحَقِيقِيُّ (بِبُرْهَانٍ) أَيْ بِالْحَدِّ الْأَوْسَطِ مَعَ مَا تَقَيَّدَ بِهِ وَيُقَالُ فِي تَوْجِيهِهِ (لِلِاسْتِغْنَاءِ عَنْهُ) أَيْ لِاسْتِغْنَاءِ الْحَدِّ عَنْ الْبُرْهَانِ (إذْ ثُبُوتُ أَجْزَاءِ الشَّيْءِ لَهُ) أَيْ لِلشَّيْءِ (لَا يَتَوَقَّفُ) ثُبُوتُهَا (إلَّا عَلَى تَصَوُّرِهِ) أَيْ ذَلِكَ الشَّيْءِ لَا غَيْرُ؛ لِأَنَّ الذَّاتِيَّ لِلشَّيْءِ لَا يُعَلَّلُ ثُبُوتُهُ لِلذَّاتِ بِشَيْءٍ فَيَكْفِي فِي ثُبُوتِ أَجْزَاءِ الشَّيْءِ لَهُ تَصَوُّرُهُ وَحَقِيقَةُ الْحَدِّ هِيَ حَقِيقَةُ الْمَحْدُودِ، وَأَجْزَاؤُهُ عَلَى التَّفْصِيلِ فَيَكْفِي فِي ثُبُوتِ الْحَدِّ لِلْمَحْدُودِ تَصَوُّرُ الْمَحْدُودِ، وَإِنَّمَا مَنَعَ الْمُصَنِّفُ التَّعْلِيلَ بِهَذَا (لِأَنَّ الْفَرْضَ جَهَالَةُ كَوْنِهَا) أَيْ أَجْزَاءِ الشَّيْءِ الَّتِي هِيَ الْحَدُّ (أَجْزَاءَ الصُّورَةِ الْإِجْمَالِيَّةِ) الَّتِي هِيَ الْمَحْدُودُ، وَإِلَّا لَوْ كَانَ مَعْلُومًا كَوْنُهَا إيَّاهَا مِنْ غَيْرِ تَوَقُّفٍ عَلَى نَظَرٍ وَكَسْبٍ لَكَانَتْ الصُّورَةُ الْإِجْمَالِيَّةُ مِنْ قَبِيلِ الْبَدِيهَاتِ الْمُسْتَغْنِيَةِ عَنْ الْحُدُودِ لَا النَّظَرِيَّاتِ فَكَيْفَ يَكْفِي فِي مَعْرِفَةِ الْحَدِّ مَعْرِفَةُ الْمَحْدُودِ فَإِنْ قِيلَ نِسْبَةُ مَا يُقَالُ أَنَّهُ أَجْزَاءُ الصُّورَةِ الْإِجْمَالِيَّةِ إلَيْهَا بِالْجُزْئِيَّةِ لَهَا يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ تَصَوُّرُ الصُّورَةِ الْإِجْمَالِيَّةِ كَافِيًا فِي ثُبُوتِ تِلْكَ الْأَجْزَاءِ لَهَا فَالْجَوَابُ الْمَنْعُ.
(وَنِسْبَتُهَا) أَيْ وَنِسْبَةُ مَا يُقَالُ أَنَّهُ أَجْزَاءُ الصُّورَةِ الْإِجْمَالِيَّةِ (إلَيْهَا) أَيْ الصُّورَةِ الْإِجْمَالِيَّةِ (بِالْجُزْئِيَّةِ) أَيْ بِأَنَّهَا أَجْزَاؤُهَا (مُجَرَّدُ دَعْوَى) يَتَسَلَّطُ عَلَيْهَا الْمَنْعُ وَيَحْتَاجُ إلَى دَلِيلٍ يُثْبِتُهَا، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ (فَلَا يُوجِبُهُ) أَيْ ثُبُوتَ أَجْزَاءِ الْحَدِّ لِلْمَحْدُودِ (إلَّا دَلِيلٌ) يُوجِبُهُ، وَالْمَفْرُوضُ خِلَافَهُ (أَوْ لِلدَّوْرِ) عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ لِلِاسْتِغْنَاءِ أَيْ وَلَا لِمَا قِيلَ لَا يُكْتَسَبُ الْحَدُّ بِبُرْهَانٍ دَفْعًا لِلدَّوْرِ اللَّازِمِ عَلَى تَقْدِيرِ كَوْنِهِ مُكْتَسَبًا بِهِ؛ لِأَنَّ الِاسْتِدْلَالَ عَلَى ثُبُوتِ شَيْءٍ لِشَيْءٍ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute