للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

اللَّوَاحِقُ لَيْسَتْ مِمَّا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ مَسَائِلُ هَذَا الْعِلْمِ، وَإِنَّمَا تُفِيدُ نَوْعَ بَصِيرَةٍ فِيهِ.

فَإِذَنْ هَذَا مِنْ النَّوْعِ الْمُسَمَّى بِالتَّوْجِيهِ عِنْدَ أَهْلِ الْبَدِيعِ ثُمَّ هَذَا مِمَّا يَشْهَدُ بِمَا ذَكَرْنَاهُ صَدْرَ هَذِهِ الْمَقَالَةِ مِنْ أَنَّ إطْلَاقَ الْمُصَنِّفِ الْمَبَادِئَ عَلَى مَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ مِنْ الْأَحْكَامِ اللُّغَوِيَّةِ إنَّمَا هُوَ بِالِاصْطِلَاحِ الْمَنْطِقِيِّ (وَكَوْنُ الْمُرَادِ بِالْأَسْمَاءِ الْمُسَمَّيَاتِ بِعَرَضِهِمْ) أَيْ، وَمَا قِيلَ أَيْضًا مِنْ قِبَلِ الِاصْطِلَاحِيَّةِ دَفْعًا لِاحْتِجَاجِ التَّوْقِيفِيَّةِ بِالْآيَةِ الشَّرِيفَةِ لَيْسَ الْمُرَادُ بِالْأَسْمَاءِ الْأَلْفَاظَ الْمَوْضُوعَةَ لِمَعَانِيهَا بَلْ الْمُرَادُ بِهَا حَقَائِقَ الْأَشْيَاءِ وَخَوَاصَّهَا بِأَنْ عَلَّمَهُ أَنَّ حَقِيقَةَ الْخَيْلِ كَذَا، وَهِيَ تَصْلُحُ لِلْكَرِّ وَالْفَرِّ وَأَنَّ حَقِيقَةَ الْبَقَر كَذَا، وَهِيَ تَصْلُحُ لِلْحَرْثِ، وَهَلُمَّ جَرًّا بِدَلِيلِ قَوْله تَعَالَى {ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ} [البقرة: ٣١] ؛ لِأَنَّ الْعَرْضَ لِلسُّؤَالِ عَنْ أَسْمَاءِ الْمَعْرُوضَاتِ فَلَا يَكُونُ الْمَعْرُوضُ نَفْسَ الْأَلْفَاظِ عَلَى أَنَّ عَرْضَهَا مِنْ غَيْرِ تَلَفُّظٍ بِهَا غَيْرُ مُتَصَوَّرٍ وَبِتَلَفُّظٍ بِهَا يَأْبَاهُ الْأَمْرُ بِالْإِتْيَانِ بِهَا عَلَى سَبِيلِ التَّبْكِيتِ؛ وَلِأَنَّ الضَّمِيرَ الَّذِي هُوَ هُمْ لِلْأَسْمَاءِ إذْ لَمْ يَتَقَدَّمْ غَيْرُهُ، وَهِيَ إنَّمَا تَصْلُحُ لِذَلِكَ إذَا أُرِيدَ بِهَا الْحَقَائِقُ لِإِمْكَانِهِ حِينَئِذٍ تَغْلِيبًا لِذَوِي الْعِلْمِ عَلَى غَيْرِهِمْ (مُنْدَفِعٌ بِالتَّعْجِيزِ بِ {أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاءِ} [البقرة: ٣١] ؛ لِأَنَّهُ تَعَالَى أَمَرَهُمْ بِالْإِنْبَاءِ عَلَى سَبِيلِ التَّبْكِيتِ وَالْإِظْهَارِ لِعَجْزِهِمْ عَنْ الْقِيَامِ بِهِ، وَأَضَافَ فِيهِ الْأَسْمَاءَ إلَى هَؤُلَاءِ، وَهِيَ الْمُسَمَّيَاتُ.

وَمَعْلُومٌ أَنْ لَيْسَ الْمُرَادُ بِهَا هُنَا الْمُسَمَّيَاتِ لِمَا يَلْزَمُهُ مِنْ إضَافَةِ الشَّيْءِ إلَى نَفْسِهِ، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ بِهَا الْأَلْفَاظَ الدَّالَّةَ عَلَيْهَا فَكَذَا الْأَسْمَاءُ الَّتِي هِيَ مُتَعَلَّقُ التَّعْلِيمِ، وَإِلَّا لَمَا صَحَّ الْإِلْزَامُ بِطَلَبِهِ الْأَنْبَاءَ بِالْأَسْمَاءِ ثُمَّ إنْبَائِهِ تَعَالَى إيَّاهُمْ بِهَا؛ لِأَنَّ صِحَّتَهُ إنَّمَا تَكُونُ لَوْ سَأَلَ الْمَلَائِكَةَ عَمَّا عَلَّمَ آدَمَ لَا عَنْ شَيْءٍ آخَرَ، وَالضَّمِيرُ فِي عَرَضَهُمْ لِلْمُسَمَّيَاتِ الْمَدْلُولِ عَلَيْهِ ضِمْنًا إذْ التَّقْدِيرُ: أَمَّا أَسْمَاءَ الْمُسَمَّيَاتِ فَحَذَفَ الْمُضَافَ إلَيْهِ لِدَلَالَةِ الْمُضَافِ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الِاسْمَ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ مُسَمًّى، وَعَوَّضَ عَنْهُ اللَّامُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا} [مريم: ٤] كَمَا هُوَ مَذْهَبُ الْكُوفِيِّينَ وَبَعْضُ الْبَصْرِيِّينَ وَكَثِيرٌ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ. وَأَمَّا الْأَسْمَاءُ لِلْمُسَمَّيَاتِ فَحَذَفَ الْجَارَّ وَالْمَجْرُورَ لِدَلَالَةِ الْأَسْمَاءِ عَلَيْهِ كَمَا هُوَ مُقْتَضَى مَذْهَبِ الْبَاقِينَ، وَأَيًّا مَا كَانَ فَلَا إشْكَالَ إذْ لَا مُنَافَاةَ بَيْنَ كَوْنِ الْمُرَادِ بِالْأَسْمَاءِ الْأَلْفَاظَ وَبَيْنَ عَوْدِ الضَّمِيرِ إلَى الْمُسَمَّيَاتِ الَّتِي هِيَ مَا أُضِيفَتْ الْأَسْمَاءُ إلَيْهِ أَوْ كَانَتْ مُتَعَلَّقَةً بِهَا هَذَا وَلَا يَبْعُدُ عِنْدَ الْعَبْدِ الضَّعِيفِ - غَفَرَ اللَّهُ تَعَالَى لَهُ - أَنْ يُقَالَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ اسْتِخْدَامٌ أَعْنِي يَكُونُ الْمُرَادُ بِالْأَسْمَاءِ فِي {وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ} [البقرة: ٣١] الْأَلْفَاظَ وَيَكُونُ الضَّمِيرُ فِي عَرَضَهُمْ رَاجِعًا إلَى الْأَسْمَاءِ مُرَادًا بِهَا الْمُسَمَّيَاتِ كَقَوْلِ الشَّاعِرِ

إذَا نَزَلَ السَّمَاءُ بِأَرْضِ قَوْمٍ ... رَعَيْنَاهُ وَإِنْ كَانُوا غِضَابًا

، وَهَذَا مَعَ كَوْنِهِ مِنْ الْمُحَسِّنَاتِ الْبَدِيعِيَّةِ أَيْسَرَ وَأَسْهَلَ (وَبُعْدِ عَلَّمَ الْمُسَمَّيَاتِ) أَيْ، وَمُنْدَفِعٌ أَيْضًا بِبُعْدِ أَنْ يُقَالَ، وَعَلَّمَ آدَمَ الْمُسَمَّيَاتِ؛ لِأَنَّ الْمَفْعُولَ الثَّانِيَ لِلتَّعْلِيمِ إنَّمَا يَكُونُ مِنْ قَبِيلِ الْأَعْرَاضِ وَالصِّفَاتِ لَا مِنْ قَبِيلِ الْأَشْخَاصِ وَالذَّوَاتِ إلَّا بِنَوْعٍ مَقْبُولٍ مِنْ التَّأْوِيلَاتِ كَمَا يَشْهَدُ بِهِ اسْتِقْرَاءُ الِاسْتِعْمَالَاتِ فَلَا يُتْرَكُ الظَّاهِرُ الْقَرِيبُ السَّالِمُ مِنْ تَكَلُّفِ تَأْوِيلٍ لِاحْتِمَالٍ خَفِيٍّ مِنْ غَيْرِ دَلِيلِ.

ثَالِثُهَا: وَهُوَ مَذْهَبُ الْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ الْبَاقِلَّانِيِّ وَنَقَلَهُ فِي الْحَاصِلِ عَنْ الْمُحَقِّقِينَ، وَفِي الْمَحْصُولِ وَالتَّحْصِيلِ عَنْ جُمْهُورِهِمْ وَاخْتَارَهُ الْإِمَامُ الرَّازِيّ، وَأَتْبَاعُهُ التَّوَقُّفُ وَلَمَّا كَانَ ظَاهِرُ هَذَا عَدَمَ الْقَوْلِ بِمُعَيَّنٍ مِنْ الْأَقْوَالِ الْمُمْكِنَةِ فِيهَا، وَقَالُوا فِي وَجْهِهِ؛ لِأَنَّ كُلًّا مِنْ الْمَذَاهِبِ فِيهَا مُمْكِنٌ لِذَاتِهِ لَا يَلْزَمُ مِنْ فَرْضِ وُقُوعِهِ مُحَالٌ لِذَاتِهِ، وَشَيْءٌ مِنْ الْأَدِلَّةِ لَا يُفِيدُ الْقَطْعَ فَوَجَبَ الْوَقْفُ أَشَارَ الْمُصَنِّفُ إلَيْهِ مَعَ الِاعْتِرَاضِ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ (وَتَوَقَّفَ الْقَاضِي) عَنْ الْقَطْعِ بِشَيْءٍ مِنْ الْمَذَاهِبِ (لِعَدَمِ) دَلِيلٍ (الْقَطْعِ) بِذَلِكَ (لَا يَنْفِي الظَّنَّ) بِأَحَدِهَا، وَهُوَ مَا الدَّلِيلُ يُفِيدُ ظَنَّهُ بَلْ يُجَامِعُ الظَّنَّ بِأَحَدِهَا عَدَمُ الْقَطْعِ بِشَيْءٍ مِنْهَا فَلَا يَلْزَمُ الْوَقْفُ إلَّا بِالنِّسْبَةِ إلَى الْقَطْعِ فَقَطْ (وَالْمُبَادِرُ) إلَى الذِّهْنِ وَالْأَحْسَنُ وَلَكِنَّ الْمُبَادِرَ (مِنْ قَوْلِهِ) أَيْ الْقَاضِي (كُلٌّ) مِنْ الْمَذَاهِبِ فِيهَا (مُمْكِنٌ عَدَمُهُ) أَيْ الظَّنِّ بِأَحَدِهِمَا؛ لِأَنَّ مِثْلَ هَذَا الْإِطْلَاقِ يَقْتَضِي الْمُسَاوَاةَ فِي الِاحْتِمَالِ مِنْ غَيْرِ رُجْحَانٍ لِاحْتِمَالٍ عَلَى آخَرَ (وَهُوَ) أَيْ عَدَمُ الظَّنِّ بِأَحَدِهَا (مَمْنُوعٌ)

<<  <  ج: ص:  >  >>