لِلْمُفْتِي فِي فَتْوَاهُ وَالْقَاضِي فِي قَضَائِهِ (وَفِي غَيْرِهَا) أَيْ وَالسُّكُوتُ فِي غَيْرِ الْمُوَافَقَةِ مِمَّا ذُكِرَ (احْتِمَالَاتٌ) غَيْرُ ظَاهِرَةٍ وَهِيَ (لَا تَنْفِي الظُّهُورَ وَ) أَجَابَ (الْحَنَفِيَّةُ انْتَفَى الْأَوَّلُ) وَهُوَ السُّكُوتُ لِلْخَوْفِ (بِالْعَرَضِ) حَيْثُ قُلْنَا وَلَا تَقِيَّةَ (وَ) انْتَفَى (مَا بَعْدَهُ) وَهُوَ السُّكُوتُ لِلتَّفَكُّرِ (بِمُضِيِّ مُدَّةِ التَّأَمُّلِ فِيهِ عَادَةً وَ) السُّكُوتُ (لِلتَّعْظِيمِ بِلَا تَقِيَّةٍ فِسْقٌ) كَتَرْكِ الْوَاجِبِ الَّذِي هُوَ الرَّدُّ؛ لِأَنَّ الْفَتْوَى أَوْ الْقَضَاءَ إذَا كَانَ غَيْرَ حَقٍّ يَكُونُ مُنْكَرًا وَاجِبَ الرَّدِّ فَلَا يُنْسَبُ إلَى الْمُتَدَيِّنِ وَكَيْفَ وَالظَّاهِرُ أَنَّ مَبَاحِثَ الْمُجْتَهِدِينَ مَأْمُونَةُ الْعَوَاقِبِ لِطَهَارَةِ مَقَاصِدِهِمْ؛ لِأَنَّهُمْ مُتَظَاهِرُونَ عَلَى النَّصِيحَةِ بِتَحْقِيقِ الْحَقِّ وَإِزَاحَةِ الْبَاطِلِ؛ لِأَنَّهُمْ أَئِمَّةُ الدِّينِ وَالسَّادَةُ الْقَادَةُ إلَى الْيَقِينِ فَإِنْ اُدُّعِيَ ثُبُوتُ ذَلِكَ عَنْ سَاكِتٍ فَلَا يَقْدَحُ مُخَالَفَتُهُ حِينَئِذٍ؛ لِأَنَّ الْقَادِحَ قَوْلُ الْمُجْتَهِدِ الْعَدْلِ وَهَذَا عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ لَيْسَ بِهِ وَكَيْفَ لَا وَمَنْ تَسَامَحَ فِي الدِّينِ وَلَوْ بِمَسْأَلَةٍ وَاحِدَةٍ يَخْرُجُ عَنْ الْأَهْلِيَّةِ، وَإِنْ فُرِضَ كَوْنُ الْقَاضِي ظَالِمًا يَبْطِشُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ عَلَيْهِ فِي مَسَائِلِ الِاجْتِهَادِ وَمَوَاضِعِ الْإِنْكَارِ مِمَّنْ هُوَ مِنْ أَهْلِ ذَلِكَ فَهُوَ غَيْرُ أَهْلٍ فَلَا يُعْتَبَرُ قَوْلُهُ فَضْلًا عَنْ أَنْ يَصِيرَ إجْمَاعًا.
(وَمَا عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي سُكُوتِهِ عَنْ عُمَرَ فِي الْقَوْلِ) مِنْ قَوْلِهِ (كَانَ مَهِيبًا نَفَوْا) أَيْ الْحَنَفِيَّةُ كَفَخْرِ الْإِسْلَامِ وَالْقَاضِي أَبِي زَيْدٍ (صِحَّتَهُ) عَنْهُ (وَلِأَنَّهُ) أَيْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - (كَانَ يُقَدِّمُهُ) أَيْ ابْنَ عَبَّاسٍ (عَلَى كَثِيرٍ مِنْ الْأَكَابِرِ وَيَسْتَحْسِنُ قَوْلَهُ) فَعَنْهُ كَانَ عُمَرُ يُدْخِلُنِي مَعَ أَشْيَاخِ بَدْرٍ فَكَأَنَّ بَعْضَهُمْ وَجَدَ فِي نَفْسِهِ فَقَالَ لِمَ يَدْخُلُ هَذَا مَعَنَا وَلَنَا أَبْنَاءٌ مِثْلُهُ فَقَالَ عُمَرُ إنَّهُ مِنْ حَيْثُ عَلِمْتُمْ فَدَعَانِي ذَاتَ يَوْمٍ فَأَدْخَلَنِي مَعَهُمْ فَمَا رَأَيْت أَنَّهُ دَعَانِي يَوْمئِذٍ إلَّا لِيُرِيَهُمْ قَالَ مَا تَقُولُونَ فِي قَوْلِ اللَّهِ {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} [النصر: ١] فَقَالَ بَعْضُهُمْ أَمَرَنَا أَنْ نَحْمَدَ اللَّهَ وَنَسْتَغْفِرَهُ إذَا نَصَرَنَا وَفَتَحَ عَلَيْنَا وَسَكَتَ بَعْضُهُمْ فَلَمْ يَقُلْ شَيْئًا فَقَالَ لِي أَكَذَلِكَ تَقُولُ يَا ابْنَ عَبَّاسٍ فَقُلْت لَا قَالَ فَمَا تَقُولُ قُلْت هُوَ أَجَلُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَعْلَمَهُ لَهُ قَالَ {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} [النصر: ١] وَذَلِكَ عَلَامَةُ أَجَلِك {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا} [النصر: ٣] فَقَالَ عُمَرُ مَا أَعْلَمُ مِنْهَا إلَّا مَا تَقُولُ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَعَنْهُ قَالَ دَعَا عُمَرُ الْأَشْيَاخَ مِنْ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذَاتَ يَوْمٍ فَقَالَ لَهُمْ «إنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ مَا عَلِمْتُمْ الْتَمِسُوهَا فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ» وِتْرًا فَفِي أَيْ الْوِتْرِ تَرَوْنَهَا فَقَالَ رَجُلٌ بِرَأْيِهِ إنَّهَا تَاسِعَةٌ سَابِعَةٌ خَامِسَةٌ ثَالِثَةٌ فَقَالَ يَا ابْنَ عَبَّاسٍ تَكَلَّمْ قَالَ قُلْت أَقُولُ بِرَأْيِي قَالَ عَنْ رَأْيِك أَسْأَلُك قُلْت إنِّي سَمِعْت وَاَللَّهِ أَكْثَرَ مِنْ ذِكْرِ السَّبْعِ فَذَكَرَ الْحَدِيثَ وَفِي آخِرِهِ قَالَ عُمَرُ أَعْجَزْتُمْ أَنْ تَقُولُوا مِثْلَ مَا قَالَ هَذَا الْغُلَامُ الَّذِي لَمْ تَسْتَوْشِئُوا رَأْسَهُ أَخْرَجَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ فِي مُسْنَدِ عُمَرَ وَالْحَاكِمُ وَقَالَ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ.
(وَكَانَ) عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - (أَلْيَنَ لِلْحَقِّ) وَأَشَدَّ انْقِيَادًا لَهُ مِنْ غَيْرِهِ (وَعَنْهُ لَا خَيْرَ فِيكُمْ إنْ لَمْ تَقُولُوا وَلَا خَيْرَ فِي إنْ لَمْ أَسْمَعْ) ذَكَرَهُ فِي التَّقْوِيمِ وَغَيْرِهِ (وَقِصَّتُهُ مَعَ الْمَرْأَةِ فِي نَهْيِهِ عَنْ مُغَالَاةِ الْمَهْرِ شَهِيرَةٌ) رَوَاهَا غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْهُمْ أَبُو يَعْلَى الْمُوصِلِيُّ بِسَنَدٍ قَوِيٍّ عَنْ مَسْرُوقٍ قَالَ رَكِبَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ مِنْبَرَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثُمَّ قَالَ أَيُّهَا النَّاسُ مَا إكْثَارُكُمْ فِي صُدُقِ النِّسَاءِ وَقَدْ «كَانَ الصَّدُقَاتُ فِيمَا بَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَبَيْنَ أَصْحَابِهِ أَرْبَعُمِائَةِ دِرْهَمٍ فَمَا دُونَ ذَلِكَ» وَلَوْ كَانَ الْإِكْثَارُ فِي ذَلِكَ تَقْوًى عِنْدَ اللَّهِ أَوْ مَكْرُمَةً لَمْ تَسْبِقُوهُمْ إلَيْهَا فَلَا أَعْرِفَنَّ مَا زَادَ رَجُلٌ فِي صَدَاقِ امْرَأَةٍ عَلَى أَرْبَعِمِائَةِ دِرْهَمٍ قَالَ ثُمَّ نَزَلَ فَاعْتَرَضَتْهُ امْرَأَةٌ مِنْ قُرَيْشٍ فَقَالَتْ لَهُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ نَهَيْتَ النَّاسَ أَنْ يَزِيدُوا النِّسَاءَ فِي صُدُقِهِنَّ عَلَى أَرْبَعِمِائَةِ دِرْهَمٍ قَالَ نَعَمْ قَالَتْ أَمَا سَمِعْت اللَّهَ يَقُولُ {وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا} [النساء: ٢٠] فَقَالَ عُمَرُ اللَّهُمَّ عَفْوًا كُلُّ أَحَدٍ أَفْقَهُ مِنْ عُمَرَ قَالَ، ثُمَّ رَجَعَ فَرَكِبَ الْمِنْبَرَ، ثُمَّ قَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إنِّي كُنْت نَهَيْتُكُمْ أَنْ تَزِيدُوا النِّسَاءَ فِي صَدَاقِهِنَّ عَلَى أَرْبَعِمِائَةِ دِرْهَمٍ فَمَنْ شَاءَ أَنْ يُعْطِيَ مِنْ مَالِهِ مَا أَحَبَّ لَكِنْ فِي نَفْيِ صِحَّةِ اعْتِذَارِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ تَرْكِ مُرَاجَعَةِ عُمَرَ بِالْهَيْبَةِ نَظَرٌ فَقَدْ رَوَى الطَّحَاوِيُّ وَإِسْمَاعِيلُ بْنُ إِسْحَاقَ الْقَاضِي فِي الْأَحْكَامِ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ قَالَ دَخَلْت أَنَا وَزُفَرُ بْنُ الْحَدَثَانِ عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - بَعْدَ مَا ذَهَبَ بَصَرُهُ فَتَذَاكَرْنَا فَرَائِضَ الْمَوَارِيثِ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَتَرَوْنَ مَنْ أَحْصَى رَمْلَ عَالِجٍ عَدَدًا
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute