اسْتِعْمَالُهُ فِي مُقَابَلَةِ الْقِيَاسِ عَلَى الْإِطْلَاقِ كَانَ إنْكَارُ الْعَمَلِ بِهِ عِنْدَ الْجَهْلِ بِمَعْنَاهُ مُسْتَحْسَنًا حَتَّى يَتَبَيَّنَ الْمُرَادُ مِنْهُ إذْ لَا وَجْهَ لِقَبُولِ الْعَمَلِ بِمَا لَا يُعْرَفُ مَعْنَاهُ. وَفِي هَذَا الِاعْتِذَارِ مَا لَا يَخْفَى ثُمَّ بَعْدَمَا عُلِمَ أَنَّهُ اسْمٌ لِدَلِيلٍ مُتَّفَقٍ عَلَيْهِ نَصًّا كَانَ أَوْ إجْمَاعًا أَوْ ضَرُورَةً أَوْ قِيَاسًا خَفِيًّا إذَا وَقَعَ فِي مُقَابَلَةِ قِيَاسٍ يَسْبِقُ إلَيْهِ الْإِفْهَامُ حَتَّى لَا يُطْلَقَ عَلَى مَا لَا يُقَابِلُ مِنْهَا الْقِيَاسَ الْجَلِيَّ فَهُوَ حُجَّةٌ عِنْدَ الْجَمِيعِ مِنْ غَيْرِ تَصَوُّرِ خِلَافٍ فَلَا جَرَمَ أَنْ قَالَ ابْنُ الْحَاجِبِ لَا يَتَحَقَّقُ اسْتِحْسَانٌ مُخْتَلَفٌ فِيهِ.
(وَقَسَّمُوا الِاسْتِحْسَانَ إلَى مَا قَوِيَ أَثَرُهُ) أَيْ تَأْثِيرُهُ بِالنِّسْبَةِ إلَى مُقَابِلِهِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ (وَ) إلَى (مَا خَفِيَ فَسَادُهُ) أَيْ ضَعْفُهُ لِأَنَّهُ إذَا ضَعُفَ فِي مُقَابَلَةِ غَيْرِهِ فَسَدَ ثُمَّ خَفَاؤُهُ (بِالنِّسْبَةِ إلَى ظُهُورِ صِحَّتِهِ وَإِنْ كَانَ) ظُهُورُ صِحَّتِهِ (خَفِيًّا بِالنِّسْبَةِ إلَى الْقِيَاسِ) الْمُقَابِلِ لَهُ (وَظَهَرَ صِحَّتُهُ) عَطْفٌ عَلَى خَفِيَ يَعْنِي إذَا تُؤُمِّلَ حَقَّ التَّأَمُّلِ عُلِمَ أَنَّهُ فَاسِدٌ بِالنِّسْبَةِ إلَى مَعْنًى آخَرَ انْضَمَّ إلَى مُقَابِلِهِ الَّذِي هُوَ الْقِيَاسُ وَإِذَا نَظَرَ إلَيْهِ أَدْنَى النَّظَرِ يُرَى صَحِيحًا.
(وَ) قَسَّمُوا (الْقِيَاسَ إلَى مَا ضَعُفَ أَثَرُهُ و) إلَى (مَا ظَهَرَ فَسَادُهُ وَخَفِيَ صِحَّتُهُ) وَذَلِكَ بِأَنْ يَنْضَمَّ إلَى وَجْهِهِ مَعْنًى دَقِيقٌ يُورِثُهُ قُوَّةً وَرُجْحَانًا عَلَى وَجْهِ مُقَابِلِهِ الَّذِي هُوَ الِاسْتِحْسَانُ (فَأَوَّلُ الْأَوَّلِ) أَيْ الْقِسْمُ الْأَوَّلُ مِنْ الِاسْتِحْسَانِ وَهُوَ مَا قَوِيَ أَثَرُهُ (مُقَدَّمٌ عَلَى أَوَّلِ الثَّانِي) أَيْ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ مِنْ الْقِيَاسِ وَهُوَ مَا ضَعُفَ أَثَرُهُ (وَثَانِي الثَّانِي) أَيْ وَالْقِسْمُ الثَّانِي مِنْ الْقِيَاسِ وَهُوَ مَا ظَهَرَ فَسَادُهُ وَخَفِيَ صِحَّتُهُ مُقَدَّمٌ (عَلَى ثَانِي الْأَوَّلِ) أَيْ الْقِسْمِ الثَّانِي مِنْ الِاسْتِحْسَانِ وَهُوَ مَا ظَهَرَ صِحَّتُهُ وَخَفِيَ فَسَادُهُ لِأَنَّهُ لَا عِبْرَةَ لِلظَّاهِرِ بِظُهُورِهِ وَلَا لِلْبَاطِنِ بِبُطُونِهِ وَإِنَّمَا الْعِبْرَةُ لِقُوَّةِ الْأَثَرِ فِي مَضْمُونِهِ لِأَنَّ الْعِلَّةَ إنَّمَا صَارَتْ عِلَّةً بِأَثَرِهَا فَيَسْقُطُ ضَعِيفُ الْأَثَرِ بِمُقَابَلَةِ قَوِيِّ الْأَثَرِ ظَاهِرًا كَانَ أَوْ خَفِيًّا.
(مِثَالُ مَا اجْتَمَعَ فِيهِ أَوَّلُ كُلٍّ) مِنْ الْقِيَاسِ وَالِاسْتِحْسَانِ (سِبَاعُ الطَّيْرِ) أَيْ سُؤْرُهَا وَكَانَ الْأَوْلَى ذِكْرُهُ كَالصَّقْرِ وَالْبَازِي إذْ (الْقِيَاسُ نَجَاسَةُ سُؤْرِهَا) قِيَاسًا وَالِاسْتِحْسَانُ (عَلَى) نَجَاسَةِ سُؤْرِ (سِبَاعِ الْبَهَائِمِ) كَالْأَسَدِ وَالنَّمِرِ لِأَنَّ السُّؤْرَ مُعْتَبَرٌ بِاللَّحْمِ، وَلَحْمُ سِبَاعِ الطَّيْرِ نَجِسٌ لِأَنَّهُ حَرَامٌ وَحُرْمَتُهُ مَعَ صَلَاحِيَّتِهِ لِلْغِذَاءِ لَا لِلْكَرَامَةِ آيَةُ النَّجَاسَةِ فَكَانَ سُؤْرُهَا نَجِسًا كَسُؤْرِ سِبَاعِ الْبَهَائِمِ فَإِنَّ لَحْمَهَا لَمَّا كَانَ حَرَامًا وَكَانَتْ حُرْمَتُهُ مَعَ صَلَاحِيَّتِهِ لِلْغِذَاءِ لَا لِلْكَرَامَةِ آيَةَ النَّجَاسَةِ كَانَ سُؤْرُهَا نَجِسًا فَالْمَعْنَى الْجَامِعُ بَيْنَهُمَا نَجَاسَةُ اللَّحْمِ وَهَذَا مَعْنًى ظَاهِرُ الْأَثَرِ ثُمَّ حَيْثُ اسْتَوَيَا فِيهِ اسْتَوَيَا فِي أَثَرِهِ وَهُوَ نَجَاسَةُ السُّؤْرِ (وَالِاسْتِحْسَانُ) طَهَارَةُ سُؤْرِهَا وَهُوَ (الْقِيَاسُ الْخَفِيُّ عَلَى) طَهَارَةِ سُؤْرِ (الْآدَمِيِّ) بِجَامِعِ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا غَيْرُ مَأْكُولِ اللَّحْمِ وَإِنْ كَانَ حُرْمَةُ أَكْلِ لَحْمِ الْآدَمِيِّ لِلْكَرَامَةِ وَحُرْمَةُ أَكْلِ لَحْمِ سِبَاعِ الطَّيْرِ لِلنَّجَاسَةِ (لِضَعْفِ أَثَرِ الْقِيَاسِ) الْمَذْكُورِ (أَيْ مُؤَثِّرُهُ) أَيْ مُؤَثِّرُ حُكْمِهِ الَّذِي هُوَ نَجَاسَةُ السُّؤْرِ (وَهُوَ) أَيْ مُؤَثِّرُهُ (مُخَالَطَةُ اللُّعَابِ النَّجِسِ) لِلْمَاءِ فِي سُؤْرِ سِبَاعِ الْبَهَائِمِ لِأَنَّهُ مُتَوَلِّدٌ مِنْ لَحْمِهَا وَهِيَ تَشْرَبُ بِلِسَانِهَا وَهُوَ رَطْبٌ بِهِ فَيَنْفَصِلُ مِنْهُ شَيْءٌ فِي الْمَاءِ عَادَةً (لِانْتِفَائِهِ) أَيْ هَذَا الْمُؤَثِّرِ فِي سُؤْرِ سِبَاعِ الطَّيْرِ (إذْ تَشْرَبُ) سِبَاعُ الطَّيْرِ (بِمِنْقَارِهَا الْعَظْمِ الطَّاهِرِ) لِأَنَّهُ جَافٌّ وَلَا رُطُوبَةَ فِيهِ وَإِذْ كَانَ طَاهِرًا مِنْ الْمَيِّتِ فَمِنْ الْحَيِّ أَوْلَى ثُمَّ تَأْخُذُ الْمَاءَ بِهِ ثُمَّ تَبْتَلِعُهُ وَلَا يَنْفَصِلُ شَيْءٌ مِنْ لُعَابِهَا فِي الْمَاءِ (فَانْتَفَتْ عِلَّةُ النَّجَاسَةِ) وَهِيَ مُخَالَطَةُ النَّجَاسَةِ لِلْمَاءِ فِي سُؤْرِهَا (فَكَانَ طَاهِرًا كَسُؤْرِ الْآدَمِيِّ وَأَثَرُهُ) أَيْ هَذَا الْقِيَاسِ الْخَفِيِّ (أَقْوَى) مِنْ ذَلِكَ الْقِيَاسِ الظَّاهِرِ الْأَثَرِ لِأَنَّ تَأْثِيرَ مُلَاقَاةِ الطَّاهِرِ لِلطَّاهِرِ فِي تَبْقِيَتِهِ طَاهِرًا أَشَدُّ مِنْ مُجَرَّدِ تَأْثِيرِ نَجَاسَةٍ لِلَّحْمِ فِي نَجَاسَةِ السُّؤْرِ ثُمَّ إنْ كَانَتْ مَضْبُوطَةً تُغَذَّى بِالطَّاهِرِ فَقَطْ لَا يُكْرَهُ سُؤْرُهَا كَمَا هُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَاسْتَحْسَنَهُ الْمُتَأَخِّرُونَ وَأَفْتَوْا بِهِ.
وَإِنْ كَانَتْ مُطْلَقَةً يُكْرَهُ لِأَنَّهَا لَا تَتَحَامَى الْمَيْتَةُ فَكَانَتْ كَالدَّجَاجَةِ الْمُخَلَّاةِ وَلِذَا قَالَ أَبُو يُوسُفَ فِي غَيْرِ رِوَايَةِ الْأُصُولِ مَا يَقَعُ عَلَى الْجِيَفِ مِنْهَا سُؤْرُهُ نَجِسٌ لِأَنَّ مِنْقَارَهُ لَا يَخْلُو مِنْ نَجَاسَةٍ عَادَةً كَذَا فِي الْمَبْسُوطِ وَأُجِيبَ بِأَنَّهَا تُدَلِّكُ مِنْقَارَهَا بِالْأَرْضِ بَعْدَ الْأَكْلِ وَهُوَ شَيْءٌ صُلْبٌ فَيَزُولُ مَا عَلَيْهِ بِالدَّلْكِ فَيَطْهُرُ وَلِأَنَّا لَمْ نَتَيَقَّنْ بِالنَّجَاسَةِ عَلَى مِنْقَارِهَا مَعَ الْبَلْوَى بِهَا فَإِنَّهَا تَنْقَضُّ مِنْ الْهَوَاءِ عَلَى الْمَاءِ وَلَا سِيَّمَا فِي الصَّحَارِي فَتَثْبُتُ الْكَرَاهَةُ لَا النَّجَاسَةُ كَمَا فِي الدَّجَاجَةِ الْمُخَلَّاةِ.
(فَإِنْ قُلْت سَبَقَ عِنْدَهُمْ) أَيْ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute