بَلْ إنَّمَا يُشْبِهُ بَعْضَ طُرُقِ الْإِلْغَاءِ الْعَكْسِ وَلَيْسَ بِهِ كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ نَعَمْ يُمْكِنُ تَرْجِيحُ السَّبْرِ عَلَى الدَّوَرَانِ بِمَا تَقَدَّمَ لِلِاتِّفَاقِ عَلَى أَنَّ الْحُكْمَ لَا يَثْبُتُ فِي الْفَرْعِ إلَّا بِنَفْيِ الْمُعَارِضِ وَالِاخْتِلَافُ فِي اشْتِرَاطِ الِانْعِكَاسِ فِي الْعِلَّةِ ثُمَّ فِي الْمَحْصُولِ وَهَذَا إذَا كَانَ السَّبْرُ مَظْنُونًا. فَإِنْ كَانَ مَقْطُوعًا بِهِ فَالْعَمَلُ بِهِ مُتَعَيِّنٌ وَلَيْسَ هُوَ مِنْ قَبِيلِ التَّرْجِيحِ.
(وَلَا يُتَصَوَّرُ) هَذَا التَّرْجِيحُ (لِلْحَنَفِيَّةِ) لِأَنَّهُمْ لَا يَرَوْنَ هَذِهِ طُرُقًا صَحِيحَةً لِإِثْبَاتِ الْعِلِّيَّةِ؛ وَالتَّرْجِيحُ فَرْعُ كَوْنِهَا كَذَلِكَ بَلْ غَايَةُ مَا فِي الْبَابِ أَنَّ مَنْ قَبِلَ السَّبْرَ مِنْهُمْ يَتَعَيَّنُ عِنْدَهُ الْعَمَلُ بِهِ وَيَسْقُطُ مَا عَدَاهُ فَلَمْ يُوجَدْ أَيْضًا رُكْنُ الْمُعَارَضَةِ الْمَبْنِيِّ عَلَيْهَا وُجُودُ التَّرْجِيحِ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ (وَالضَّرُورِيَّةُ عَلَى الْحَاجِيَّةِ وَالدِّينِيَّةُ مِنْهَا عَلَى غَيْرِهَا) أَيْ وَإِذَا تَعَارَضَتْ أَقْسَامٌ مِنْ الْمُنَاسِبِ رَجَحَتْ بِحَسَبِ قُوَّةِ الْمَصْلَحَةِ فَرَجَحَتْ الْمَقَاصِدُ الْخَمْسَةُ الضَّرُورِيَّةُ الَّتِي هِيَ حِفْظُ الدِّينِ وَالنَّفْسِ وَالْعَقْلِ وَالنَّسْلِ وَالْمَالِ عَلَى مَا سِوَاهَا مِنْ الْمَقَاصِدِ الْحَاجِيَّةِ وَغَيْرِهَا الْمُشَارِ إلَيْهَا فِي الْمَرْصَدِ الْأَوَّلِ فِي تَقْسِيمِ الْعِلَّةِ
لِزِيَادَةِ مَصْلَحَةِ الضَّرُورِيَّةِ
وَلِذَا لَمْ تَخْلُ شَرِيعَةٌ مِنْ مُرَاعَاتِهَا (وَهِيَ) أَيْ وَرَجَحَتْ الْحَاجِيَّةُ (عَلَى مَا بَعْدَهَا) وَهِيَ الْمَقَاصِدُ التَّحْسِينِيَّةُ لِتَعَلُّقِ الْحَاجَةِ بِالْحَاجِيَّةِ دُونَ التَّحْسِينِيَّةِ (وَمُكَمِّلُ كُلٍّ) مِنْ الضَّرُورِيَّةِ وَالْحَاجِيَّةِ وَالتَّحْسِينِيَّة (مِثْلُهُ) أَيْ ذَلِكَ الْمُكَمِّلُ (فَمُكَمِّلُهُ) أَيْ الضَّرُورِيِّ مُرَجَّحٌ (عَلَى الْحَاجِيِّ) فَضْلًا عَنْ مُكَمِّلِهِ لِقُرْبِ الْمُكَمِّلِ مِنْ الْمُكَمَّلِ عَلَى مَا ثَبَتَ مِنْ اعْتِبَارِ الشَّارِعِ مِثْلَهُ (وَعَنْهُ) أَيْ عَنْ كَوْنِ مُكَمِّلِ كُلٍّ مِثْلَهُ (ثَبَتَ) شَرْعًا مِنْ الْحَدِّ (فِي) شُرْبِ (قَلِيلِ الْخَمْرِ) وَلَوْ قَطْرَةً (مَا) ثَبَتَ مِنْهُ (فِي) شُرْبِ (كَثِيرِهَا وَيُقَدَّمُ حِفْظُ الدِّينِ) مِنْ الضَّرُورِيَّاتِ عَلَى مَا عَدَاهُ عِنْدَ الْمُعَارَضَةِ لِأَنَّهُ الْمَقْصُودُ الْأَعْظَمُ قَالَ تَعَالَى {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: ٥٦] وَغَيْرُهُ مَقْصُودٌ مِنْ أَجْلِهِ وَلِأَنَّ ثَمَرَتَهُ أَكْمَلُ الثَّمَرَاتِ وَهِيَ نَيْلُ السَّعَادَةِ الْأَبَدِيَّةِ فِي جِوَارِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.
(ثُمَّ) يُقَدَّمُ حِفْظُ (النَّفْسِ) عَلَى حِفْظِ النَّسَبِ وَالْعَقْلِ وَالْمَالِ لِتَضَمُّنِهِ الْمَصَالِحَ الدِّينِيَّةَ لِأَنَّهَا إنَّمَا تَحْصُلُ بِالْعِبَادَاتِ وَحُصُولُهَا مَوْقُوفٌ عَلَى بَقَاءِ النَّفْسِ (ثُمَّ) يُقَدَّمُ حِفْظُ (النَّسَبِ) عَلَى الْبَاقِيَيْنِ لِأَنَّهُ لِبَقَاءِ نَفْسِ الْوَلَدِ إذْ بِتَحْرِيمِ الزِّنَا لَا يَحْصُلُ اخْتِلَاطُ النَّسَبِ فَيُنْسَبُ إلَى شَخْصٍ وَاحِدٍ فَيَهْتَمَّ بِتَرْبِيَتِهِ وَحِفْظِ نَفْسِهِ وَإِلَّا أُهْمِلَ فَتَفُوتُ نَفْسُهُ لِعَدَمِ قُدْرَتِهِ عَلَى حِفْظِهَا (ثُمَّ) يُقَدِّمُ حِفْظَ (الْعَقْلِ) عَلَى حِفْظِ الْمَالِ لِفَوَاتِ النَّفْسِ بِفَوَاتِهِ حَتَّى أَنَّ الْإِنْسَانَ بِفَوَاتِهِ يَلْتَحِقُ بِالْحَيَوَانَاتِ وَيَسْقُطُ عَنْهُ التَّكْلِيفُ وَمِنْ ثَمَّةَ وَجَبَ بِتَفْوِيتِهِ مَا وَجَبَ بِتَفْوِيتِ النَّفْسِ وَهِيَ الدِّيَةُ الْكَامِلَةُ قُلْت وَلَا يَعْرَى كَوْنُ بَعْضِ هَذِهِ التَّوْجِيهَاتِ مُفِيدَةً لِتَرْتِيبِ هَذِهِ الْمَذْكُورَاتِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ مِنْ التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ مِنْ تَأَمُّلٍ (ثُمَّ) حِفْظُ (الْمَالِ وَقِيلَ) يُقَدِّمُ (الْمَالَ) أَيْ حِفْظَهُ فَضْلًا عَنْ حِفْظِ النَّفْسِ وَالْعَقْلِ وَالنَّسَبِ (عَلَى) حِفْظِ (الدِّينِ) كَمَا حَكَاهُ غَيْرُ وَاحِدٍ فَكَأَنَّ الْمُصَنِّفَ نَبَّهَ بِالْأَدْنَى عَلَى الْأَعْلَى بِطَرِيقٍ أَوْلَى وَقَدْ كَانَ الْأَحْسَنُ تَقْدِيمَ هَذِهِ الْأَرْبَعَةِ عَلَى الدِّينِيِّ لِأَنَّهَا حَقُّ الْآدَمِيِّ وَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى الضِّيقِ وَالْمُشَاحَّةِ وَيَتَضَرَّرُ بِفَوَاتِهِ وَالدِّينِيُّ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى وَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى التَّيْسِيرِ وَالْمُسَامَحَةِ وَهُوَ لِغِنَاهُ وَتَعَالِيهِ لَا يَتَضَرَّرُ بِفَوَاتِهِ (وَلِذَا) أَيْ تَقْدِيمِ هَذِهِ عَلَى الدِّينِيِّ (تُتْرَكُ الْجُمُعَةُ وَالْجَمَاعَةُ) وَهُمَا دِينِيَّانِ (لِحِفْظِهِ) أَيْ الْمَالِ وَهُوَ دُنْيَوِيٌّ (وَلِأَبِي يُوسُفَ تُقْطَعُ) الصَّلَاةُ (لِلدِّرْهَمِ) وَلَفْظُ الْخُلَاصَةِ وَلَوْ سُرِقَ مِنْهُ أَوْ مِنْ غَيْرِهِ دِرْهَمٌ يَقْطَعُ الْفَرْضَ وَالنَّفَلَ انْتَهَى وَلَمْ يَعْزُهُ إلَى أَحَدٍ وَفِي الْفَتَاوَى الظَّهِيرِيَّةِ وَإِنْ خَافَ فَوْتَ شَيْءٍ مِنْ مَالِهِ كَانَ فِي سَعَةٍ مِنْ قَطْعِ صَلَاتِهِ وَلَا فَصْلَ فِي الْكِتَابِ بَيْنَ الْمَالِ الْكَثِيرِ وَالْقَلِيلِ وَعَامَّةُ الْمَشَايِخِ قَدَّرُوا ذَلِكَ بِدِرْهَمٍ لِأَنَّ مَا دُونَهُ حَقِيرٌ فَلَا يَقْطَعُ الصَّلَاةَ لِأَجْلِهِ لِأَنَّ اكْتِسَابَهُ ذَمِيمٌ (وَقُدِّمَ الْقِصَاصُ عَلَى قَتْلِ الرِّدَّةِ) عِنْدَ اجْتِمَاعِ الْقَتْلِ بِهِمَا فَإِنَّ الْقِصَاصَ حَقُّ الْآدَمِيِّ وَأَمْرٌ دُنْيَوِيٌّ لِحِفْظِ النَّفْسِ وَقَتْلُ الرِّدَّةِ أَمْرٌ دِينِيٌّ (وَرَدُّ) كَوْنِ الْعِلَّةِ فِي تَقْدِيمِ قَتْلِ الْقِصَاصِ عَلَى قَتْلِ الرِّدَّةِ تَقْدِيمُ حَقِّ الْعَبْدِ عَلَى حَقِّ اللَّهِ (بِأَنَّ فِي الْقِصَاصِ حَقَّهُ تَعَالَى) وَلِهَذَا يَحْرُمُ عَلَيْهِ قَتْلُ نَفْسِهِ وَالتَّصَرُّفُ بِمَا يُفْضِي إلَى تَفْوِيتِهَا فَقُدِّمَ لِتَرَجُّحِهِ بِاجْتِمَاعِ الْحَقَّيْنِ وَإِيضَاحِهِ كَمَا ذَكَرَ السُّبْكِيُّ أَنَّ الشَّارِعَ لَا مَقْصِدَ لَهُ فِي إزْهَاقِ الْأَرْوَاحِ إنَّمَا مَقْصِدُهُ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute