وَاعْتَرَفَا بِأَنَّهُ لَيْسَ لِلْعَقْلِ هُنَا مَدْخَلٌ لَا فِي الْوُجُوبِ وَلَا فِي عَدَمِهِ كَمَا قَالَهُ فِي الْمَحْصُولِ وَهَذَا الثَّانِي أَبْدَلَهُ فِي الْمُسْتَصْفَى بِالْحُكْمِ الْوَارِدِ عَلَى سَبَبٍ كَرَجْمِ مَاعِزٍ وَفِي الْبُرْهَانِ بِالْحُكْمِ الَّذِي هُوَ فِي مَعْنَى الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ كَقِيَاسِ صَبِّ الْبَوْلِ فِي الْمَاءِ بِالْبَوْلِ فِيهِ وَجَعْلِ الثَّانِي مِنْ كَلَامِ الْبَيْضَاوِيِّ دَاخِلًا فِي الْأَوَّلِ هَذَا (وَاسْتِدْلَالُهُمْ) أَيْ الظَّاهِرِيَّةِ وَمَنْ مَعَهُمْ.
وَهَذَا وَإِنْ كَانَ ظَاهِرُ شُرُوحِ أُصُولِ ابْنِ الْحَاجِبِ أَنَّهُ لِمَانِعِيهِ عَقْلًا فَالْوَجْهُ أَنْ يَكُونَ لِمَانِعِيهِ سَمْعًا إمَّا عَلَى أَنَّ هَذَا الدَّلِيلَ نَقْلِيٌّ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ مَا كَانَ لِلسَّمَاعِ فِيهِ مَدْخَلٌ كَمَا مَشَى عَلَيْهِ الْبَيْضَاوِيُّ وَغَيْرُهُ إذْ إحْدَى مُقَدِّمَتَيْهِ ثَابِتَةٌ بِالنَّقْلِ فَظَاهِرٌ وَإِمَّا عَلَى أَنَّهُ مُرَكَّبٌ مِنْ النَّقْلِيِّ وَالْعَقْلِيِّ بِنَاءً عَلَى أَنَّ مَا كَانَتْ مُقَدِّمَتَاهُ ثَابِتَتَيْنِ بِالنَّقْلِ كَمَا مَشَى عَلَيْهِ الْإِمَامُ الرَّازِيّ فَلِأَنَّهُ لَمْ يَتَمَحَّضْ أَنْ يَكُونَ الْمَانِعُ مِنْهُ الْعَقْلَ نَعَمْ الْعِبَارَةُ مُوهِمَةٌ نَقْلَ هَذَا عَنْ الْمَانِعِينَ سَمْعًا وَلَمْ أَقِفْ عَلَى التَّصْرِيحِ بِهِ (بِأَنَّ فِي حُكْمِهِ) أَيْ الْقِيَاسِ (اخْتِلَافًا) مِنْ الْجَوَازِ وَعَدَمِهِ وَالْإِضَافَةِ وَعَدَمِهَا (فَهُوَ) أَيْ الْقِيَاسُ حِينَئِذٍ (مَرْدُودٌ لِأَنَّهُ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا} [النساء: ٨٢] وَمَا كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ فَهُوَ مَرْدُودٌ (مَدْفُوعٌ بِمَنْعِ كَوْنِ الِاخْتِلَافِ الْمُوجِبِ لِلرَّدِّ فِي الْآيَةِ مَا فِي الْأَحْكَامِ) الشَّرْعِيَّةِ أَيْ فِي بَعْضِهَا مِنْ الِاخْتِلَافِ فَإِنَّهُ وَاقِعٌ لَا يُمْكِنُ إنْكَارُهُ.
(بَلْ) الِاخْتِلَافُ الْمُوجِبُ لِلرَّدِّ فِيهَا (التَّنَاقُضُ) فِي الْمَعْنَى (وَالْقُصُورُ) عَنْ الْبَلَاغَةِ الَّتِي لِأَجْلِهَا وَقَعَ التَّحَدِّي وَالْإِلْزَامُ بِكَوْنِ الْقُرْآنِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ أَيْ لَوْ كَانَ الْقُرْآنُ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَكَانَ بَعْضُ أَخْبَارِهِ مُطَابِقَةً لِلْوَاقِعِ دُونَ بَعْضٍ وَالْعَقْلُ مُوَافِقًا لِبَعْضِ أَحْكَامِهِ دُونَ بَعْضٍ وَكَانَ مُتَفَاوِتًا فِي النَّظْمِ إلَى رَكِيكٍ وَفَصِيحٍ ثُمَّ إلَى فَصِيحٍ بَالِغٍ حَدَّ الْإِعْجَازِ وَقَاصِرٍ عَنْهُ عَلَى مَا دَلَّ عَلَيْهِ الِاسْتِقْرَاءُ لِنُقْصَانِ الْقُوَّةِ الْبَشَرِيَّةِ وَأُورِدَ لِمَ قُلْتُمْ لَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَزِمَهُ الِاخْتِلَافُ وَكَثِيرٌ مِنْ الْكُتُبِ الْمُصَنَّفَةِ هِيَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ وَلَا اخْتِلَافَ فِيهَا لِإِتْقَانِ مُصَنِّفِيهَا إيَّاهَا وَأُجِيبَ بِوَجْهَيْنِ أَحَدَهُمَا أَنَّ مِثْلَ الْقُرْآنِ نَظْمِهِ وَطَرِيقِ إعْجَازِهِ لَوْ قُدِّرَ أَنَّ بَشَرًا تَكَلَّفَهُ فِي مِثْلِ حَجْمِهِ لَلَزِمَهُ الِاخْتِلَافُ لِوُعُورَةِ طَرِيقِهِ عَلَى السَّالِكِ غَيْرِ الْمَعْصُومِ ثَانِيهِمَا أَنَّهُ لَوْ تَكَلَّفَهُ بَشَرٌ بِغَيْرِ إذْنٍ إلَهِيٍّ لَأَعْجَزَهُ اللَّهُ فِيهِ بِوُقُوعِ الِاخْتِلَافِ فِيهِ الدَّالِّ عَلَى كَذِبِهِ لِمَا عُرِفَ مِنْ أَنَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لَا يُؤَيِّدُهُ بِالْمُعْجِزَةِ تَمْيِيزًا لِلصَّادِقِ مِنْ غَيْرِهِ (وَتِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ) أَيْ وَاسْتِدْلَالُ مَانِعِيهِ سَمْعًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} [النحل: ٨٩] (وَنَحْوِهِ) أَيْ وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [الأنعام: ٥٩] أَيْ عَلَى قِرَاءَةِ رَفْعِهِمَا فَإِنَّ اللَّهَ جَعَلَ كِتَابَهُ بَيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَجَمِيعَ الْأَحْكَامِ فِي الْكِتَابِ الْمُبِينِ فَلَوْ كَانَ الْقِيَاسُ حُجَّةً لَمْ يَكُنْ الْكِتَابُ بَيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَلَا كُلُّ الْأَحْكَامِ فِي الْكِتَابِ الْمُبِينِ وَهُوَ خِلَافُ النَّصِّ مَمْنُوعٌ لِأَنَّهُ بَعْدَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْكِتَابِ الْمُبِينِ الْقُرْآنُ لَا اللَّوْحُ الْمَحْفُوظُ كَمَا عُزِيَ إلَى عَامَّةِ الْمُفَسِّرِينَ أَوْ عِلْمُ اللَّهِ عَلَى مَا هُوَ قَوْلُ بَعْضِهِمْ الْعُمُومُ فِيهِمَا (مَخْصُوصٌ قَطْعًا) إذْ لَيْسَ كُلُّ الْأَشْيَاءِ كَائِنَةً مَا كَانَتْ فِي الْقُرْآنِ.
(أَوْ هُوَ) أَيْ كُلُّ شَيْءٍ (فِيهِ) أَيْ فِي الْكِتَابِ (إجْمَالًا) وَلَوْ بِالْإِحَالَةِ إلَى السُّنَّةِ وَالْقِيَاسِ فَيَكُونُ مُبَيِّنًا لَهُ بِطَرِيقٍ إجْمَالِيٍّ مَعْنًى وَإِنْ لَمْ يُذْكَرْ لَفْظًا كَمَا بَعْضُ الْأَشْيَاءِ مُبَيَّنٌ فِيهِ تَفْصِيلًا (فَجَازَ فِيهِ) أَيْ الْكِتَابِ أَنْ يَكُونَ مَذْكُورًا (حُكْمُ الْقِيَاسِ) وَهُوَ ثُبُوتُ حُكْمِ الْأَصْلِ فِي الْفَرْعِ أَيْ اعْتِبَارُهُ (فَيَعْلَمُهُ الْمُجْتَهِدُ) بِطَرِيقِ الِاجْتِهَادِ (كَمَا جَازَ) أَنْ يَكُونَ (الْكُلُّ) أَيْ كُلُّ الْأَحْكَامِ (فِيهِ) أَيْ فِي الْكِتَابِ (وَيَعْلَمُهُ النَّبِيُّ) - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَمَا قِيلَ جَمِيعُ الْعِلْمِ فِي الْقُرْآنِ لَكِنْ تَقَاصَرَتْ عَنْهُ أَفْهَامُ الرِّجَالِ (مَعَ أَنَّهُ) أَيْ مُتَمَسَّكُهُمْ بِهَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ عَلَى الْوَجْهِ الْمَذْكُورِ (مُسْتَلْزِمٌ أَنْ لَا يَكُونَ غَيْرُ الْقُرْآنِ حَجَّةً) بِعَيْنِ مَا ذَكَرُوهُ (وَهُوَ) أَيْ انْتِفَاءُ حُجِّيَّةِ غَيْرِ الْقُرْآنِ (مُنْتَفٍ عِنْدَهُمْ) أَيْ الْمَانِعِينَ (أَيْضًا) فَمَا هُوَ جَوَابُهُمْ عَنْ هَذَا اللَّازِمِ لَهُمْ فَهُوَ جَوَابُنَا (وَبِهِ) أَيْ وَبِانْتِفَاءِ هَذَا اللَّازِمِ عِنْدَهُمْ (يَبْعُدُ نِسْبَةُ هَذَا) الِاسْتِدْلَالِ بِالْآيَتَيْنِ (لَهُمْ عَلَى الِاقْتِصَارِ) عَلَيْهِ كَمَا هُوَ ظَاهِرُ حِكَايَةِ النَّاقِلِينَ لَهُ عَنْهُمْ (وَأَمَّا) الْجَوَابُ عَنْهُ عَلَى مَا ذَكَرَهُ صَدْرُ الشَّرِيعَةِ وَهُوَ أَيْ الْقُرْآنُ تِبْيَانٌ لِلْقِيَاسِ (بِاعْتِبَارِ دَلَالَتِهِ) أَيْ الْقُرْآنِ (عَلَى حُكْمِ الْأَصْلِ نَصًّا) أَيْ لَفْظًا.
(وَحُكْمِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute