للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فِي الْقَوْلِ بِمُوجِبِ الْعِلَّةِ لِأَنَّ السَّائِلَ لَمَّا سَلَّمَ الْحُكْمَ الَّذِي رَتَّبَهُ الْمُجِيبُ عَلَى الْعِلَّةِ وَادَّعَى النِّزَاعَ فِي حُكْمٍ آخَرَ لَمْ يَتِمَّ غَرَضُ الْمُجِيبِ فَيَنْتَقِلُ لِإِثْبَاتِ الْحُكْمِ الْمُتَنَازَعِ فِيهِ بِالْعِلَّةِ الْأُولَى إنْ أَمْكَنَهُ ذَلِكَ وَذَلِكَ آيَةُ كَمَالِ فِقْهِهِ حَيْثُ عَلَّلَ عَلَى وَجْهٍ يُمَكِّنُهُ إثْبَاتُ حُكْمٍ آخَرَ بِتِلْكَ الْعِلَّةِ وَدَلِيلٍ عَلَى صِحَّةِ وَصْفِهِ حَيْثُ أَمْكَنَهُ إثْبَاتُ حُكْمٍ آخَرَ بِهِ (أَوْ) مِنْ عِلَّةٍ (إلَى) عِلَّةٍ (أُخْرَى لِإِثْبَاتِ الْحُكْمِ الْأَوَّلِ) لَا لِإِثْبَاتِ الْعِلَّةِ الْأُولَى وَهَذَا إنَّمَا يَتَحَقَّقُ فِي فَسَادِ الْوَضْعِ وَالْمُنَاقَضَةِ إنْ لَمْ يُمْكِنْ دَفْعُهُمَا بِبَيَانِ الْمُلَائَمَةِ وَالتَّأْثِيرِ وَالطَّرْدِ (وَاخْتُلِفَ فِي هَذَا) الرَّابِعِ (فَقِيلَ يُقْبَلُ لِمُحَاجَّةِ الْخَلِيلِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -) نُمْرُودَ بْنَ كَنْعَانَ الْمُشْتَمِلُ عَلَيْهَا قَوْله تَعَالَى {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ} [البقرة: ٢٥٨] فَانْتَقَلَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ حُجَّةٍ إلَى أُخْرَى لِإِثْبَاتِ الْحُكْمِ الْأَوَّلِ وَقَدْ حَكَى اللَّهُ تَعَالَى ذَلِكَ عَنْهُ عَلَى سَبِيلِ التَّمَدُّحِ فَهُوَ إذًا صَحِيحٌ.

(وَدُفِعَ) هَذَا (بِأَنَّ حُجَّتَهُ) أَيْ إبْرَاهِيمَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - الْأُولَى (مُلْزِمَةٌ) لِلَّعِينِ مُفْحِمَةٌ لَهُ (وَمُعَارَضَةُ اللَّعِينِ) لَهُ بِمَنْعِ دَلِيلِهِ الْمُسْتَفَادِ مِنْ قَوْلِهِ أَنَا أُحْيِيَ وَأُمِيتُ ثُمَّ بَيَانُ مُسْتَنِدِ مَنْعِهِ بِإِحْضَارِهِ شَخْصَيْنِ مِنْ السِّجْنِ وَجَبَ قَتْلُهُمَا فَأَطْلَقَ أَحَدَهُمَا وَقَالَ قَدْ أَحْيَيْتُهُ وَقَتَلَ الْآخَرَ وَقَالَ قَدْ أَمَتُّهُ (بِتَرْكِ التَّسَبُّبِ فِي إزَالَةِ حَيَاةِ شَخْصٍ وَإِزَالَتِهَا قَتْلًا بَاطِلَةٌ إذْ الْمُرَادُ) بِالْإِحْيَاءِ (إيجَادُهَا) أَيْ الْحَيَاةِ (فِيمَا لَيْسَتْ فِيهِ وَ) بِالْإِمَاتَةِ (إزَالَتُهَا) أَيْ الْحَيَاةِ (بِلَا مُبَاشَرَةٍ مَحْسُوسَةٍ) أَيْ بِنَزْعِ الرُّوحِ الْحَيَوَانِيِّ مِنْ الْجَسَدِ بِغَيْرِ عِلَاجٍ مَحْسُوسٍ وَلَا اسْتِبْقَاءِ الْحَيَاةِ فِي الْأَحْيَاءِ وَتَفْوِيتِهَا بِالْعِلَاجِ الْمَحْسُوسِ فِي الْإِمَاتَةِ فَإِنَّ هَذَا مِمَّا يَقْدِرُ عَلَيْهِ الشُّلُوحُ وَقُطَّاعُ الطَّرِيقِ فَأَيُّ مَزِيَّةٍ لِلْعَيْنِ فِيهِ وَلَكِنْ كَمَا قَالَ (وَحَاضِرُهُ ضَلَالٌ يُسْرِعُ إلَيْهِمْ إلْزَامُ مَا لَا يَلْزَمُ فَانْتَقَلَ إلَى دَلِيلٍ آخَرَ لَا يَحْتَمِلُ التَّلْبِيسَ) وَلَا الْمُغَالَطَةَ وَلَا الْمُكَابَرَةَ فِيهِ وَمِنْ ثَمَّةَ لَمْ يَقُلْ فَأْتِ بِهَا مِنْ الْمَشْرِقِ مَعَ عِلْمِهِ بِعَجْزِهِ عَنْ ذَلِكَ إذْ قَدْ يَحْمِلُهُ وَقَاحَتُهُ وَمُكَابَرَتُهُ إلَى أَنَّهُ لَوْ قَالَ لَهُ هَذَا لَقَالَ لَهُ أَنَا آتِي بِهَا مِنْ الْمَشْرِقِ ثُمَّ يَصْبِرُ حَتَّى تَطْلُعَ مِنْهُ فَيَقُولَ هَا قَدْ أَطْلَعْتُهَا مِنْهُ فَيَحْتَاجَ إبْرَاهِيمُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - إلَى إبْطَالِ دَعْوَاهُ هَذِهِ أَيْضًا وَفِي ذَلِكَ تَطْوِيلُ الْبَحْثِ وَانْتِشَارُهُ فَاسْتَرَاحَ مِنْ ذَلِكَ بِأَنْ طَلَبَ مِنْهُ مَا يَظْهَرُ مِنْهُ إفْضَاحُهُ لِلْخَاصِّ وَالْعَامِّ لِعَجْزِهِ عَنْهُ وَهُوَ أَنْ يَأْتِيَ بِهَا مِنْ الْمَغْرِبِ فَهُوَ انْتِقَالٌ إلَى دَلِيلٍ أَوْضَحَ وَحُجَّةٍ أَبْهَرَ لِيَكُونَ نُورًا عَلَى نُورٍ وَإِضَاءَةً غِبَّ إضَاءَةٍ قَالَ الْمُصَنِّفُ (وَالْحَقُّ أَنْ لَا انْتِقَالَ فَإِنَّ الْأَوَّلَ) أَيْ قَوْلَهُ {رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ} [البقرة: ٢٥٨] (الدَّعْوَى وَاسْتِدْلَالُهُ لَمْ يَقَعْ إلَّا بِمَعْنَى الْإِلْزَامِ فِي قَوْلِهِ {فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ} [البقرة: ٢٥٨] إلَخْ) كَأَنَّهُ قَالَ الْمُرَادُ بِالْإِحْيَاءِ إعَادَةُ الرُّوحِ إلَى الْبَدَنِ فَالشَّمْسُ بِمَنْزِلَةِ رُوحِ الْعَالَمِ لِإِضَاءَتِهِ بِهَا وَإِظْلَامِهِ بِغُرُوبِهَا فَإِنْ كُنْتَ تَقْدِرُ عَلَى إحْيَاءِ الْمَوْتَى فَأَعِدْ رُوحَ الْعَالَمِ إلَيْهِ بِأَنْ تَأْتِيَ بِالشَّمْسِ مِنْ جَانِبِ الْمَغْرِبِ.

وَعَلَى هَذَا مَشَى نَجْمُ الدِّينِ النَّسَفِيُّ حَيْثُ قَالَ ثُمَّ هَذَا لَيْسَ بِانْتِقَالٍ مِنْ حُجَّةٍ إلَى حُجَّةٍ أُخْرَى فِي الْمُنَاظَرَةِ لِأَنَّ إبْرَاهِيمَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - ادَّعَى انْفِرَادَ اللَّهِ بِالرُّبُوبِيَّةِ وَاحْتَجَّ لِذَلِكَ بِكَمَالِ الْقُدْرَةِ وَدَلَّ عَلَيْهِ بِالْإِحْيَاءِ وَالْإِمَاتَةِ فَلَمَّا أَرَادَ النُّمْرُودُ التَّلْبِيسَ أَظْهَرَ كَمَالَ الْقُدْرَةِ بِحَدِيثِ الشَّمْسِ وَالدَّلِيلُ وَاحِدٌ وَالصُّورَتَانِ مُخْتَلِفَتَانِ انْتَهَى. وَهَذَا مَا قِيلَ الِانْتِقَالُ فِي الْمِثَالِ كَأَنَّهُ قَالَ إبْرَاهِيمُ رَبِّي الَّذِي يُوجِدُ الْمُمْكِنَاتِ وَيُعْدِمُهَا وَأَتَى بِالْإِحْيَاءِ وَالْإِمَاتَةِ مِثَالًا فَلَمَّا اعْتَرَضَ جَاءَ بِمِثَالٍ أَجْلَى لِدَفْعِ الشَّغَبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ أَيْ انْقَطَعَ لِأَنَّهُ إنْ ادَّعَى أَنَّهُ يَأْتِي بِهَا كَذَلِكَ عَجَزَ عَنْ تَحْقِيقِ دَعْوَاهُ وَإِنْ اعْتَرَفَ بِالْعَجْزِ عَنْ ذَلِكَ ظَهَرَ نَقْصُهُ وَبُطْلَانُ دَعْوَاهُ الْإِلَهِيَّةَ.

(وَالْكَلَامُ فِيمَا إذَا ظَهَرَ الْبُطْلَانُ) لِدَلِيلِ الْمُسْتَدِلِّ (الْأَوَّلِ فَانْتَقَلَ إلَى دَلِيلٍ آخَرَ فَإِنَّهُ) أَيْ انْتِقَالَهُ (انْقِطَاعٌ فِي عُرْفِهِمْ) أَيْ النُّظَّارِ (اسْتَحْسَنُوهُ كَيْ لَا يَخْلُوَ الْمَجْلِسُ) لِلْمُنَاظَرَةِ (عَنْ الْمَقْصُودِ) وَهِيَ إظْهَارُ الْحَقِّ (وَإِلَّا فَفِي الْعَقْلِ لَهُ) أَيْ لِلْمُسْتَدِلِّ (أَنْ يَنْتَقِلَ إلَى) دَلِيلٍ (آخَرَ وَآخَرَ إذَا لَمْ يَثْبُتْ مَا عَيَّنَهُ) مِنْ الْحُكْمِ بِمَا ذَكَرَ مِنْ الدَّلِيلِ (حَتَّى يُعْجِزَهُ عَنْ إثْبَاتِهِ وَلَوْ) كَانَ ذَلِكَ (فِي مَجَالِسَ) وَكَيْفَ لَا وَالْمَقْصُودُ مِنْ الْمُنَاظَرَةِ ظُهُورُ الْحَقِّ بِأَيِّ دَلِيلٍ كَانَ وَلَيْسَ فِي وُسْعِ الْمُعَلِّلِ الِانْتِقَالُ مِنْ دَلِيلٍ إلَى آخَرَ لَا إلَى نِهَايَةٍ بَلْ الِانْتِقَالُ مِنْ عِلَّةٍ إلَى عِلَّةٍ لِإِثْبَاتِ حُكْمٍ شَرْعِيٍّ بِمَنْزِلَةِ الِانْتِقَالِ

<<  <  ج: ص:  >  >>