وَكِلَاهُمَا مُحَالٌ فَيَثْبُتُ الْمَطْلُوبُ وَتَعَقَّبَهُ الْمُصَنِّفُ أَوَّلًا بِقَوْلِهِ: (وَهُوَ) أَيْ هَذَا الِاسْتِدْلَال (مُثْبِتٌ لِجُزْءِ الدَّعْوَى) لَا لَهَا كُلِّهَا؛ لِأَنَّ كَمَالَهَا - كَمَا قَالَ الْمُصَنِّفُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - صِحَّةُ صَوْغِ الْوَصْفِ لِذَاتٍ وَلَيْسَ الْمَعْنَى قَائِمًا بِهَا بَلْ هُوَ قَائِمٌ بِغَيْرِهَا وَإِذَا كَانَ الْخَلْقُ بِمَعْنَى الْمَخْلُوقِ، وَبَعْضُهُ جَوَاهِرُ صَدَقَ جُزْءُ الدَّعْوَى، وَهُوَ أَنَّ الْمَعْنَى لَيْسَ قَائِمًا بِالذَّاتِ، وَلَا يَصْدُقُ الْجُزْءُ الْآخَرُ مِنْ الدَّعْوَى، وَهُوَ أَنَّهُ قَائِمٌ بِغَيْرِهَا؛ لِأَنَّ مِنْ الْمَخْلُوقِ جَوَاهِرَ تَقُومُ بِنَفْسِهَا لَا بِغَيْرِهَا فَلَمْ يُشْتَقُّ الْوَصْفُ لِذَاتٍ.
وَالْمَعْنَى قَائِمٌ بِغَيْرِهَا بَلْ وَالْمَعْنَى قَائِمٌ بِنَفْسِهِ وَيَتَضَمَّنُ لَيْسَ قَائِمًا بِهَا، وَهُوَ جُزْءُ الدَّعْوَى فَأَثْبَتَ الدَّلِيلُ عَدَمَ قِيَامِهِ بِالذَّاتِ وَلَمْ يَثْبُتْ قِيَامُهُ بِغَيْرِهَا فَلَمْ يَتِمَّ الْمَطْلُوبُ وَثَانِيًا بِقَوْلِهِ (أُجِيبَ بِأَنَّ مَعْنَى خَلْقِهِ كَوْنُهُ سُبْحَانَهُ تَعَلَّقَتْ قُدْرَتُهُ بِالْإِيجَادِ وَهُوَ) أَيْ تَعَلُّقُ قُدْرَتِهِ بِالْإِيجَادِ لِلْمَخْلُوقَاتِ (إضَافَةُ اعْتِبَارٍ يَقُومُ بِهِ) أَيْ بِالْخَالِقِ قَالَ الْمُصَنِّفُ فَمَا اشْتَقَّ لَهُ الْخَالِقُ إلَّا بِاعْتِبَارٍ قِيَامِ الْخَلْقِ بِهِ، وَقَوْلُهُ (لَا صِفَةٌ مُتَقَرِّرَةٌ لِيَلْزَمَ كَوْنُهُ مَحَلًّا لِلْحَوَادِثِ أَوْ قِدَمَ الْعَالَمِ) دَفْعٌ لِمَا يُرَادُ عَلَى ذَلِكَ التَّقْرِيرِ وَهُوَ أَنَّهُ لَوْ كَانَ مَعْنَى خَلْقِهِ تَعَلُّقَ قُدْرَتِهِ، وَتَعَلُّقُهَا حَادِثٌ وَهُوَ قَائِمٌ بِهِ لَزِمَ كَوْنُهُ مَحَلًّا لِلْحَوَادِثِ أَوْ قِدَمَ الْعَالَمِ فَقَالَ: إنَّمَا يَلْزَمُ لَوْ كَانَ تَعَلُّقُهَا يُوجِبُ وَصْفًا حَقِيقِيًّا يَقُومُ بِهِ - تَعَالَى - لَكِنَّهُ إنَّمَا يُوجِبُ إضَافَةً مِنْ الْإِضَافَاتِ، وَهِيَ أُمُورٌ اعْتِبَارِيَّةٌ (وَأَوْرَدَ - إنْ قَامَتْ بِهِ النِّسْبَةُ - الِاعْتِبَارَ فَهُوَ مَحَلٌّ لِلْحَوَادِثِ) لِأَنَّهَا حَادِثَةٌ (وَإِنْ لَمْ تَقُمْ بِهِ ثَبَتَ مَطْلُوبُهُمْ وَهُوَ الِاشْتِقَاقُ لِذَاتٍ وَلَيْسَ الْمَعْنَى بِهِ) أَيْ قَائِمًا بِالْمُشْتَقِّ (مَعَ أَنَّ الْوَجْهَ أَمْ لَا يَقُومُ بِهِ؛ لِأَنَّ الِاعْتِبَارِيَّ لَيْسَ لَهُ وُجُودٌ حَقِيقِيٌّ فَلَا يَقُومُ بِهِ حَقِيقَةً) .
وَالْجَوَابُ مَا أَشَارَ إلَيْهِ قَوْلُهُ (لَكِنْ كَلَامُهُمْ) أَيْ الْأُصُولِيِّينَ (أَنَّهُ يَكْفِي فِي الِاشْتِقَاقِ هَذَا الْقَدْرُ مِنْ الِانْتِسَابِ) الَّذِي هُوَ تَعَلُّقُ الْقُدْرَةِ بِالْإِيجَادِ كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْقَاضِي عَضُدُ الدِّينِ وَغَيْرُهُ (فَلِيَكُنْ) هَذَا الْقَدْرُ مِنْ الِانْتِسَابِ (هُوَ الْمُرَادَ بِقِيَامِ الْمَعْنَى فِي صَدْرِ الْمَسْأَلَةِ ثُمَّ هَذَا الْجَوَابُ) النَّاطِقُ بِأَنَّ مَعْنَى خَلْقِهِ كَوْنُهُ - تَعَالَى - تَعَلَّقَتْ قُدْرَتُهُ بِإِيجَادِهِ (يَنْبُو عَنْ كَلَامِ الْحَنَفِيَّةِ) أَيْ يَبْعُدُ عَنْ كَلَامِ مُتَأَخِّرَيْهِمْ مِنْ عَهْدِ أَبِي مَنْصُورٍ الْمَاتُرِيدِيِّ (فِي صِفَاتِ الْأَفْعَالِ) لِلَّهِ - تَعَالَى - قَالَ الْمُصَنِّفُ وَهِيَ مَا أَفَادَتْ تَكْوِينًا كَالْخَالِقِ وَالرَّازِقِ وَالْمُحْيِي وَالْمُمِيتِ فَإِنَّهُمْ مُصَرِّحُونَ بِأَنَّهَا صِفَاتٌ قَدِيمَةٌ مُغَايِرَةٌ لِلْقُدْرَةِ وَالْإِرَادَةِ (غَيْرَ أَنَّا بَيَّنَّا فِي الرِّسَالَةِ الْمُسَمَّاةِ بِالْمُسَايِرَةِ) فِي الْعَقَائِدِ الْمُنَجِّيَةِ فِي الْآخِرَةِ (أَنَّ قَوْلَ أَبِي حَنِيفَةَ لَا يُفِيدُ مَا ذَهَبُوا إلَيْهِ وَأَنَّهُ) أَيْ مَا ذَهَبُوا إلَيْهِ فِي هَذَا الْمَقَامِ (قَوْلٌ مُسْتَحْدَثٌ) وَلَيْسَ فِي كَلَامِ أَبِي حَنِيفَةَ وَالْمُتَقَدِّمِينَ تَصْرِيحٌ بِذَلِكَ سِوَى مَا أَخَذُوهُ مِنْ قَوْلِهِ كَانَ - تَعَالَى - خَالِقًا قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ وَرَازِقًا قَبْلَ أَنْ يَرْزُقَ وَذَكَرُوا لَهُ أَوْجُهًا مِنْ الِاسْتِدْلَالِ
وَالْأَشَاعِرَةُ يَقُولُونَ لَيْسَتْ صِفَةُ التَّكْوِينِ عَلَى فُصُولِهَا سِوَى صِفَةِ الْقُدْرَةِ بِاعْتِبَارِ تَعَلُّقِهَا بِمُتَعَلَّقٍ خَاصٍّ فَالْخَلْقُ: الْقُدْرَةُ بِاعْتِبَارِ تَعَلُّقِهَا بِالْمَخْلُوقِ وَالتَّرْزِيقُ تَعَلُّقُهَا بِإِيصَالِ الرِّزْقِ، وَمَا ذَكَرُوهُ مِنْ مَعْنَاهَا لَا يَنْفِي هَذَا وَيُوجِبُ كَوْنَهَا صِفَاتٍ أُخْرَى لَا تَرْجِعُ إلَى الْقُدْرَةِ الْمُتَعَلِّقَةِ وَالْإِرَادَةِ الْمُتَعَلِّقَةِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ دَلِيلٍ لَهُمْ ذَلِكَ، وَأَمَّا نِسْبَتُهُمْ ذَلِكَ إلَى الْمُتَقَدِّمِينَ فَفِيهِ نَظَرٌ بَلْ فِي كَلَامِ أَبِي حَنِيفَةَ مَا يُفِيدُ أَنَّ ذَلِكَ عَلَى مَا فَهِمَهُ الْأَشَاعِرَةُ مِنْ هَذِهِ الصِّفَاتِ عَلَى مَا نَقَلَهُ الطَّحَاوِيُّ فَإِنَّهُ قَالَ: وَكَمَا كَانَ بِصِفَاتِهِ أَزَلِيًّا لَا يَزَالُ عَلَيْهَا أَبَدِيًّا لَيْسَ مُنْذُ خَلَقَ الْخَلْقَ اسْتَفَادَ اسْمَ الْخَالِقِ وَلَا بِأَحْدَاثِ الْبَرِّيَّةِ اسْتَفَادَ اسْمَ الْبَارِي لَهُ مَعْنَى الرُّبُوبِيَّةِ وَلَا مَرْبُوبَ وَمَعْنَى الْخَالِقِ وَلَا مَخْلُوقَ وَكَمَا أَنَّهُ مُحْيِي الْمَوْتَى اسْتَحَقَّ هَذَا الِاسْمَ قَبْلَ إحْيَائِهِمْ كَذَلِكَ اسْتَحَقَّ اسْمَ الْخَالِقِ قَبْلَ إنْشَائِهِمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ اهـ فَقَوْلُهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ تَعْلِيلٌ وَبَيَانٌ لِاسْتِحْقَاقِ اسْمِ الْخَالِقِ قَبْلَ الْمَخْلُوقِ فَأَفَادَ أَنَّ مَعْنَى الْخَالِقِ قَبْلَ الْخَلْقِ وَاسْتِحْقَاقَ اسْمِهِ بِسَبَبِ قِيَامِ قُدْرَتِهِ عَلَيْهِ فَاسْمُ الْخَالِقِ، وَلَا مَخْلُوقَ فِي الْأَزَلِ لِمَنْ لَهُ قُدْرَةُ الْخَلْقِ فِي الْأَزَلِ وَهَذَا مَا تَقُولُهُ الْأَشَاعِرَةُ فَلَا جَرَمَ أَنْ قَالَ هُنَا (وَقَوْلُهُ) أَيْ أَبِي حَنِيفَةَ إنَّ اللَّهَ تَعَالَى (خَالِقٌ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ إلَخْ) أَيْ وَرَازِقٌ قَبْلَ أَنْ يَرْزُقَ (بِالضَّرُورَةِ يُرَادُ بِهِ) أَيْ بِالْخَالِقِ لَهُ (قُدْرَةُ الْخَلْقِ) الَّتِي هِيَ صِفَةٌ حَقِيقِيَّةٌ (وَإِلَّا قِدَمُ الْعَالَمُ) أَيْ وَإِلَّا لَوْ أُرِيدَ بِهِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute