لِأَنَّهُ بَذَلَ وُسْعَهُ فِي طَلَبِ الْحَقِّ، وَالْوُقُوفِ عَلَيْهِ وَرُبَّمَا سَلَكَ الطَّرِيقَ فِي الِابْتِدَاءِ وَلَمْ يَتَيَسَّرْ لَهُ الْإِتْمَامُ قُلْت: عَلَى هَذَا أَيْضًا غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ الْحَنَابِلَةِ مِنْهُمْ ابْنُ عَقِيلٍ لَكِنْ قَالَ ابْنُ الرِّفْعَةِ: وَهَذَا مُنَاسِبٌ إذَا سَلَكَهُ فِي الِابْتِدَاءِ، فَإِنْ حَادَ عَنْهُ فِي الْأَوَّلِ تَعَيَّنَ الْوَجْهُ الْأَوَّلُ وَنَصَّ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ عَلَى أَنَّهُ الْأَصَحُّ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ الِاجْتِهَادَ خِلَافُ الِاجْتِهَادِ الَّذِي يُصِيبُ بِهِ الْحَقَّ؛ لِأَنَّهُ لَوْ وَضَعَهُ فِي صِفَتِهِ وَرَتَّبَهُ عَلَى تَرْتِيبِهِ لَأَفْضَى بِهِ إلَى الْحَقِّ فَلَا يُؤْجَرُ عَلَيْهِ وَلَا عَلَى بَعْضِ أَجْزَائِهِ قُلْت: وَلَا يَعْرَى عَنْ نَظَرٍ لِلْمُنَصِّفِ هَذَا، وَأَوْرَدَ عَلَيْهِ لَوْ كَانَ عَلَى الْقَصْدِ لَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ لَهُ عُشْرُ أَجْرِ الْمُصِيبِ لِلْحَدِيثِ الصَّحِيحِ مِنْ هَمَّ بِحَسَنَةٍ وَلَمْ يَعْمَلْهَا كُتِبَتْ لَهُ حَسَنَةً كَامِلَةً، فَإِنْ عَمِلَهَا كُتِبَتْ لَهُ عَشْرَ حَسَنَاتٍ
وَأُجِيبَ بِالْقَوْلِ بِالْمُوجِبِ لِمَا عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ قَالَ: «جَاءَ خَصْمَانِ إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: اقْضِ بَيْنَهُمَا فَقُلْت: يَا رَسُولَ اللَّهِ كُنْت أَوْلَى قَالَ: وَإِنْ كَانَ قُلْت مَا أَقْضِي قَالَ: إنَّك إنْ أَصَبْت كَانَ لَك عَشْرُ حَسَنَاتٍ، وَإِنْ أَخْطَأْت كَانَ لَك حَسَنَةٌ وَاحِدَةٌ» أَخْرَجَهُ النَّقَّاشُ فِي كِتَابِ الْقُضَاةِ وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ فِي الْمُسْتَدْرَكِ لَكِنْ تُعُقِّبَ بِأَنَّ مَدَارَهُ عَلَى فَرَجِ بْنِ فُضَالَةَ ضَعَّفَهُ الْأَكْثَرُونَ، وَمُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النَّهْرَوَانِيُّ وَأَبُوهُ مَجْهُولَانِ قُلْت: وَيُمْكِنُ التَّقَصِّي عَنْ هَذَا الْإِيرَادِ عَلَى قَاعِدَةِ الشَّافِعِيَّةِ بِأَنَّ حَدِيثَ الصَّحِيحَيْنِ مُقَدَّمٌ عَلَى ذَا؛ لِأَنَّهُ خَاصٌّ وَذَا عَامٌّ، وَالْخَاصُّ مُقَدَّمٌ عَلَى الْعَامِّ عِنْدَهُمْ، وَأَمَّا عَلَى قَاعِدَةِ الْحَنَفِيَّةِ فَغَيْرُ ظَاهِرٍ إلَّا أَنَّهُ لَا إشْكَالَ بِهَذَا عَلَيْهِمْ حَيْثُ كَانَ الْأَجْرُ عَلَى نَفْسِ الِاجْتِهَادِ كَمَا هُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ هَذَا وَقَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: لِلَّهِ تَعَالَى فِي الْوَاقِعَةِ حُكْمَانِ أَحَدُهُمَا مَطْلُوبٌ بِالِاجْتِهَادِ وَنَصَبَ عَلَيْهِ الدَّلَائِلَ، وَالْأَمَارَاتِ، فَإِذَا أُصِيبَ حَصَلَ أَجْرَانِ أَجْرُ الْإِصَابَةِ وَأَجْرُ الِاجْتِهَادِ.
وَالثَّانِي: وُجُوبُ الْعَمَلِ بِمَا أَدَّى إلَيْهِ الِاجْتِهَادُ وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ فَمَنْ نَظَرَ إلَى هَذَا الثَّانِي وَلَمْ يَنْظُرْ إلَى الْأَوَّلِ قَالَ: حُكْمُ اللَّهِ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ مَا أَدَّى إلَيْهِ اجْتِهَادُهُ، وَمَنْ نَظَرَ إلَى الْأَوَّلِ قَالَ الْمُصِيبُ وَاحِدٌ وَكِلَا الْقَوْلَيْنِ حَقٌّ مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ أَمَّا أَحَدُهُمَا فَبِالنَّظَرِ إلَى وُجُوبِ الْمَصِيرِ إلَى مَا أَدَّى إلَيْهِ الِاجْتِهَادُ، وَأَمَّا الْآخَرُ فَبِالنَّظَرِ إلَى الْحُكْمِ الَّذِي فِي نَفْسِ الْأَمْرِ الْمَطْلُوبِ بِالنَّظَرِ انْتَهَى ثُمَّ قَدْ أَوْرَدَ كَيْفَ يُثَابُ عَلَى الْإِصَابَةِ وَهِيَ لَيْسَتْ مِنْ صُنْعِهِ وَأُجِيبَ؛ لِأَنَّهَا مِنْ آثَارِ صُنْعِهِ وَقِيلَ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الثَّوَابُ الثَّانِي لِكَوْنِهِ سَنَّ سُنَّةً حَسَنَةً يَقْتَدِي بِهِ فِيهَا مَنْ يَتَّبِعُهُ مِنْ الْمُقَلِّدِينَ قِيلَ: فَعَلَى هَذَا لَا يُؤْجَرُ الْمُخْطِئُ عَلَى اتِّبَاعِ الْمُقَلِّدِينَ لَهُ بِخِلَافِ الْمُصِيبِ؛ لِأَنَّ مُقَلِّدَ الْمُصِيبِ قَدْ اهْتَدَى بِهِ؛ لِأَنَّهُ صَادَفَ الْهُدَى، وَهُوَ كَمَا قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «وَلَأَنْ يَهْدِيَ اللَّهُ بِك رَجُلًا وَاحِدًا خَيْرٌ لَك مِنْ حُمْرِ النَّعَمِ» بِخِلَافِ مُقَلِّدِ الْمُخْطِئِ، فَإِنَّ الْمُخْطِئَ لَمْ يَحْصُلْ عَلَى شَيْءٍ غَايَةُ الْأَمْرِ سَقَطَ الْحَقُّ عَنْهُ بِاعْتِبَارِ ظَنِّهِ.
قُلْت: وَفِيهِ نَظَرٌ يَظْهَرُ مِمَّا يُذْكَرُ فِي آخِرِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ (وَهَذَانِ) الْقَوْلَانِ بِنَاءً (عَلَى أَنَّ عَلَيْهِ) أَيْ حُكْمِ اللَّهِ فِي الْحَادِثَةِ (دَلِيلًا ظَنِّيًّا) ، وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ مِنْ أَصْحَابِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَكَثِيرٍ مِنْ الْمُتَكَلِّمِينَ (وَقِيلَ) بَلْ عَلَيْهِ دَلِيلٌ (قَطْعِيٌّ، وَالْمُخْطِئُ آثِمٌ) ، وَهُوَ (قَوْلُ بِشْرٍ، وَالْأَصَمِّ) ذَكَرَهُ ابْنُ الْحَاجِبِ وَغَيْرُهُ وَزَادَ بَعْضُهُمْ وَابْنَ عُلَيَّةَ وَبَعْضُهُمْ ابْنَ أَبِي هُرَيْرَةَ (وَقِيلَ: غَيْرُ آثِمٍ لِخَفَائِهِ) أَيْ الدَّلِيلِ الْقَطْعِيِّ وَغُمُوضِهِ وَعَزَاهُ فِي الْكَشْفِ إلَى الْأَصَمِّ وَابْنِ عُلَيَّةَ وَأَنَّهُ مَالَ إلَيْهِ أَبُو مَنْصُورٍ الْمَاتُرِيدِيُّ وَفِي الْمَحْصُولِ إلَى الْجُمْهُورِ مِنْ قَائِلِي: إنَّ عَلَيْهِ دَلِيلًا قَطْعِيًّا، وَقِيلَ: لَا دَلَالَةَ عَلَيْهِ وَلَا أَمَارَةَ بَلْ هُوَ كَدَفِينٍ يَعْثِرُ عَلَيْهِ الطَّالِبُ اتِّفَاقًا فَمَنْ وَجَدَهُ فَلَهُ أَجْرَانِ وَمَنْ أَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ وَعَزَى هَذَا فِي الْمَحْصُولِ وَغَيْرِهِ إلَى طَائِفَةٍ مِنْ الْفُقَهَاءِ، وَالْمُتَكَلِّمِينَ زَادَ الْقَرَافِيُّ وَنُقِلَ عَنْ الشَّافِعِيِّ (وَنَقَلَ الْحَنَفِيَّةُ الْخِلَافَ أَنَّهُ) أَيْ الْمُخْطِئَ (مُخْطِئٌ ابْتِدَاءً وَانْتِهَاءً) فِي اجْتِهَادِهِ وَفِيمَا أَدَّى إلَيْهِ اجْتِهَادُهُ، وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي مَنْصُورٍ الْمَاتُرِيدِيِّ.
(أَوْ) مُصِيبٌ فِي ابْتِدَاءِ اجْتِهَادِهِ مُخْطِئٌ (انْتِهَاءً) فِيمَا طَلَبَهُ، وَهُوَ قَوْلُ الرُّسْتُغْفَنِيِّ وَعَزَاهُ بَعْضُهُمْ إلَى الشَّافِعِيِّ (وَهُوَ) أَيْ وَهَذَا الْأَخِيرُ (الْمُخْتَارُ) عِنْدَ فَخْرِ الْإِسْلَامِ وَمُوَافِقِيهِ وَغَيْرُ خَافٍ أَنَّ نَقْلَ الْحَنَفِيَّةِ مُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ (لَا يَتَحَقَّقُ إذْ الِابْتِدَاءُ بِالِاجْتِهَادِ، وَهُوَ) أَيْ الْمُجْتَهِدُ (بِهِ) أَيْ بِالِاجْتِهَادِ (مُؤْتَمِرٌ غَيْرُ مُخْطِئٍ بِهِ) أَيْ بِالِاجْتِهَادِ (قَطْعًا) وَكَيْفَ، وَهُوَ آتٍ بِمَا كُلِّفَ بِهِ مُمْتَثِلٌ لِمَا أُمِرَ بِهِ بِقَدْرِ وُسْعِهِ وَيَشْهَدُ لَهُ أَيْضًا مَا فِي
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute