بَلْ هُوَ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ اعْتِقَادِيٌّ هُوَ كَوْنُ الدَّلِيلِ الَّذِي لَاحَ لِلْمُجْتَهِدِ دَلِيلًا
(فَإِذَا ظَنَّهُ) أَيْ كَوْنَ الدَّلِيلِ دَلِيلًا فَقَدْ (عَلِمَهُ) أَيْ كَوْنَ الدَّلِيلِ دَلِيلًا إذْ لَوْ لَمْ يَعْلَمْ كَوْنَهُ دَلِيلًا لَجَازَ أَنْ يَكُونَ الدَّلِيلُ عِنْدَهُ غَيْرَهُ فَيَجِبُ عَلَيْهِ الْعَمَلُ بِذَلِكَ الْغَيْرِ لَا بِهِ فَلَا يَحْصُلُ لَهُ الْجَزْمُ بِوُجُوبِ الْعَمَلِ بِظَنِّهِ وَيَكُونُ مُخْطِئًا فِي اعْتِقَادِ أَنَّهُ دَلِيلٌ فَلَا يَكُونُ كُلُّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبًا إذْ هَذَا مُجْتَهِدٌ، وَقَدْ أَخْطَأَ فِي هَذَا الْحُكْمِ، وَهُوَ اعْتِقَادُ أَنَّهُ دَلِيلٌ (وَيَتِمُّ إلْزَامُهُ) أَيْ دَلِيلِ الْمُصَوِّبَةِ (اجْتِمَاعَ النَّقِيضَيْنِ) ، وَهُوَ الْقَطْعُ بِكَوْنِ الدَّلِيلِ دَلِيلًا وَعَدَمُ الْقَطْعِ بِهِ بِخِلَافِ الْمُخَطِّئَةِ، فَإِنَّ عَلَى مَذْهَبِهِمْ لَا يُوجِبُ ظَنَّ كَوْنِ الدَّلِيلِ دَلِيلًا الْعِلْمَ بِهِ وَجَازَ أَنْ يَكُونَ فِي ظَنِّ الدَّلِيلِ دَلِيلًا مُخْطِئًا أَيْضًا، وَلَا يَلْزَمُ خِلَافُ الْفَرْضِ هَذَا وَفِي حَاشِيَةِ الْأَبْهَرِيِّ
وَهُنَا نَظَرٌ؛ لِأَنَّ الشَّارِعَ جَعَلَ مَنَاطَ وُجُوبِ الْعَمَلِ بِالدَّلِيلِ الظَّنِّيِّ ظَنَّ كَوْنِهِ دَلِيلًا لَا نَفْسَ الدَّلِيلِ فَيَجُوزُ أَنْ يُوجِبَ مُجَرَّدُ الظَّنِّ بِكَوْنِهِ دَلِيلًا الْعِلْمَ بِوُجُوبِ الْعَمَلِ بِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَحْصُلَ الْجَزْمُ بِكَوْنِهِ دَلِيلًا، وَتَجْوِيزُ كَوْنِ غَيْرِهِ دَلِيلًا لَا يُوجِبُ الْعَمَلَ بِالْغَيْرِ مَا لَمْ يَتَعَلَّقْ الظَّنُّ بِكَوْنِ الْغَيْرِ دَلِيلًا فَالْمَظْنُونُ مَا دَامَ مَظْنُونًا يَجِبُ الْعَمَلُ بِهِ، وَإِذَا صَارَ غَيْرُهُ مَظْنُونًا انْتَفَى الظَّنُّ الْمُتَعَلِّقُ فَلَا يَجِبُ الْعَمَلُ بِهِ فَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْمَذْهَبَيْنِ فِي انْدِفَاعِ التَّنَاقُضِ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِكَوْنِ كُلِّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبًا إصَابَتَهُ فِي الْأَحْكَامِ الْفِقْهِيَّةِ لَا فِي كُلِّ حُكْمٍ فَلَا يَتِمُّ الْإِلْزَامُ.
وَقَالَ الْمُصَنِّفُ: (وَالْجَوَابُ) مِنْ قِبَلِ الْمُصَوِّبَةِ عَنْ هَذَا الْجَوَابِ (أَنَّ اللَّازِمَ) مِنْ ظَنِّ الدَّلِيلِ (ثُبُوتُ الْعِلْمِ بِالْحُكْمِ مَا لَمْ يَثْبُتْ الرُّجُوعُ) عَنْهُ (وَهُوَ) أَيْ مَا يَثْبُتُ الرُّجُوعُ عَنْهُ (انْفِسَاخُ هَذَا الْحُكْمِ بِظُهُورِ) الْحُكْمِ (الْمَرْجُوعِ) إلَيْهِ (لَا) ظُهُورِ (خَطَئِهِ) أَيْ الْحُكْمِ الْأَوَّلِ (وَبُطْلَانُهُ عِنْدَهُمْ) أَيْ الْمُصَوِّبَةِ (وَتَجْوِيزُ انْقِضَاءِ مُدَّةِ الْحُكْمِ) الْأَوَّلِ (بَعْدَ هَذَا الْوَقْتِ لَا يَقْدَحُ فِي الْقَطْعِ بِهِ حَالَ هَذَا التَّجْوِيزِ) لِنَقِيضِ الْحُكْمِ، وَهُوَ الْمَرْجُوعُ إلَيْهِ (فَبَطَلَ الدَّلِيلُ) الْمَذْكُورُ لِلْمُخَطِّئَةِ (عَنْهُمْ) أَيْ الْمُصَوِّبَةِ.
(وَبِهَذَا) الْجَوَابِ (يَنْدَفِعُ) عَنْ الْمُصَوِّبَةِ الدَّلِيلُ (الْقَائِمُ) مِنْ الْمُخَطِّئَةِ (لَوْ كَانَ) ظَنُّ الْحُكْمِ مُوجِبًا لِلْعِلْمِ بِهِ عَلَى مَا هُوَ اللَّازِمُ لِتَصْوِيبِ كُلِّ مُجْتَهِدٍ (امْتَنَعَ الرُّجُوعُ) عَنْ الْحُكْمِ (لِاسْتِلْزَامِهِ) أَيْ الرُّجُوعِ عَنْهُ (ظَنَّ النَّقِيضِ) لِلْحُكْمِ (وَالْعِلْمُ) بِهِ (يَنْفِي احْتِمَالَهُ) لِظَنِّ نَقِيضِهِ (فَلَمْ يَكُنْ الْعِلْمُ حِينَ كَانَ عِلْمًا، أَوْ لَوْ كَانَ) ظَنُّ الْحُكْمِ مُوجِبًا لِعِلْمِهِ (جَازَ ظَنُّهُ) أَيْ النَّقِيضِ (مَعَ تَذَكُّرِ مُوجِبِ الْعِلْمِ) بِالْحُكْمِ الَّذِي نَقِيضُهُ ذَلِكَ (وَهُوَ) أَيْ مُوجِبُ الْعِلْمِ (الظَّنُّ الْأَوَّلُ) وَجَوَازُ الظَّنِّ مَعَ تَذَكُّرِ مُوجِبِ الْعِلْمِ بَاطِلٌ، بَيَانَ الْمُلَازَمَةِ قَوْلُهُ: (لِجَوَازِ الرُّجُوعِ، أَوْ لَوْ كَانَ) ظَنُّ الْحُكْمِ مُوجِبًا لِلْعِلْمِ بِهِ (امْتَنَعَ ظَنُّهُ) أَيْ ظَنُّ نَقِيضِهِ (مَعَ تَذَكُّرِ الظَّنِّ) لِلْحُكْمِ الْأَوَّلِ (لِامْتِنَاعِ ظَنِّ نَقِيضِ مَا عَلِمَ مَعَ تَذَكُّرِ الْمُوجِبِ) لِلْعِلْمِ بِهِ لِوُجُودِ دَوَامِ الْعِلْمِ بِدَوَامِ مُلَاحَظَةِ مُوجِبِهِ (وَإِلَّا) لَوْ لَمْ يَمْتَنِعْ ظَنُّ نَقِيضِهِ مَعَ تَذَكُّرِ الْمُوجِبِ (لَمْ يَكُنْ) ذَلِكَ الْمُوجِبُ (مُوجِبًا) هَذَا خُلْفٌ (لَكِنَّهُ) أَيْ ظَنَّ نَقِيضِ الْأَوَّلِ (جَائِزٌ بِالرُّجُوعِ) عَنْ الْأَوَّلِ إلَى نَقِيضِهِ ثُمَّ هَذِهِ الْأَوْجُهُ الثَّلَاثَةُ يُمْكِنُ أَنْ تُجْعَلَ أَدِلَّةً مُسْتَقِلَّةً مِنْ قِبَلِ الْمُخَطِّئَةِ لِإِبْطَالِ مَذْهَبِ الْمُصَوِّبَةِ (وَقَدْ لَا يُكْتَفَى بِدَعْوَى ضَرُورِيَّةِ الْبُهُتِ) لِإِمْكَانِ بَقَاءِ الظَّنِّ (فَتُجْعَلُ) هَذِهِ الْأَوْجُهُ الثَّلَاثَةُ (دَلِيلَ بَقَاءِ الظَّنِّ عِنْدَ الْقَطْعِ بِمُتَعَلَّقِهِ) أَيْ الظَّنِّ (لَا) دَلِيلًا (مُسْتَقِلًّا وَأَلْزَمَ عَلَى الْمُخْتَارِ) ، وَهُوَ قَوْلُ الْمُخَطِّئَةِ (انْتِفَاءَ كَوْنِ الْمُوجِبِ مُوجِبًا فِي الْأَمَارَةِ) حَيْثُ قَالُوا: لَا يَمْتَنِعُ زَوَالُ ظَنِّ الْحُكْمِ إلَى ظَنِّ نَقِيضِهِ مَعَ تَذَكُّرِ الْأَمَارَةِ الَّتِي عَنْهَا الظَّنُّ مَعَ أَنَّهَا بِمَنْزِلَةِ الْمُوجِبِ.
(وَجَوَابُهُ) أَيْ هَذَا الْإِلْزَامِ (أَنَّ بُطْلَانَهُ) أَيْ كَوْنِ الْمُوجِبِ مُوجِبًا الَّذِي هُوَ التَّالِي إنَّمَا هُوَ (فِي غَيْرِهَا) أَيْ الْأَمَارَةِ (أَمَّا هِيَ) أَيْ الْأَمَارَةُ (فَإِذَنْ لَا رَبْطَ عَقْلِيٌّ) بَيْنَ الظَّنِّ، وَمَا يَنْشَأُ عَنْهُ حَتَّى يَكُونَ بِمَنْزِلَةِ الْمُوجِبِ لَهُ كَمَا فِي الْعِلْمِ الَّذِي لَا يَكُونُ إلَّا عَنْ مُوجِبٍ (جَازَ انْتِفَاءُ مُوجِبِهَا مَعَ تَذَكُّرِهَا) كَمَا يَزُولُ ظَنُّ نُزُولِ الْمَطَرِ مِنْ الْغَيْمِ الرَّطْبِ الَّذِي هُوَ مَظِنَّةٌ لَهُ إلَى عَدَمِ نُزُولِهِ مَعَ وُجُودِهِ بَلْ رُبَّمَا يَحْصُلُ الظَّنُّ بِشَيْءٍ ثُمَّ يَحْصُلُ الْعِلْمُ بِنَقِيضِهِ كَمَا إذَا ظَنَّ شَخْصٌ كَوْنَ زَيْدٍ فِي الدَّارِ لِأَمَارَاتٍ تَدُلُّ عَلَيْهِ ثُمَّ رَآهُ خَارِجَ الدَّارِ، وَإِذَا لَمْ يَسْلَمْ لِلْمُخَطِّئَةِ مَا تَقَدَّمَ دَلِيلًا لَهُمْ مَعَ أَنَّ الْمَطْلُوبَ حَقٌّ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ هُوَ الدَّلِيلَ (بَلْ الدَّلِيلُ إطْلَاقُ) الصَّحَابَةِ (الْخَطَأَ فِي الِاجْتِهَادِ شَائِعًا مُتَكَرِّرًا بِلَا نَكِيرٍ كَعَلِيٍّ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute