الْإِسْلَامِيِّينَ وَاخْتَلَفَ الْمُسْلِمُونَ بَعْدَ نَبِيِّهِمْ فِي أَشْيَاءَ ضَلَّلَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا وَتَبَرَّأَ بَعْضُهُمْ عَنْ بَعْضٍ فَصَارُوا فِرَقًا مُتَبَايِنِينَ إلَّا أَنَّ الْإِسْلَامَ يَجْمَعُهُمْ وَيَعُمُّهُمْ انْتَهَى فَلَا جَرَمَ أَنْ قَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَابْنُ الْقُشَيْرِيِّ وَغَيْرُهُمَا: أَظْهَرُ مَذْهَبَيْ الْأَشْعَرِيِّ تَرْكُ تَكْفِيرِ الْمُخْطِئِ فِي الْأُصُولِ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَيْضًا وَمُعْظَمُ الْأَصْحَابِ عَلَى تَرْكِ التَّكْفِيرِ وَقَالُوا: إنَّمَا يَكْفُرُ مَنْ جَهِلَ وُجُودَ الرَّبِّ، أَوْ عَلِمَ وُجُودَهُ وَلَكِنْ فَعَلَ فِعْلًا، أَوْ قَالَ قَوْلًا أَجْمَعَتْ الْأُمَّةُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَصْدُرُ ذَلِكَ إلَّا عَنْ كَافِرٍ وَمَنْ قَالَ بِتَكْفِيرِ الْمُتَأَوِّلِينَ يَلْزَمُهُ أَنْ يُكَفِّرَ أَصْحَابَهُ فِي نَفْيِ الْبَقَاءِ كَمَا يُكَفِّرُ فِي نَفْيِ الْعِلْمِ وَغَيْرِهِ مِنْ الْمَسَائِلِ الْمُخْتَلَفِ فِيهَا وَذَكَرَ غَيْرُهُ أَنَّ عَلَى هَذَا جُمْهُورَ الْفُقَهَاءِ، وَالْمُتَكَلِّمِينَ وَيَتَرَتَّبُ عَلَى عَدَمِ التَّكْفِيرِ أَنَّهُ لَا يُقْطَعُ بِخُلُودِهِ فِي النَّارِ وَهَلْ يُقْطَعُ بِدُخُولِهِ فِيهَا حَكَى الْقَاضِي حُسَيْنٌ فِيهِ وَجْهَيْنِ وَقَالَ الْمُتَوَلِّي: ظَاهِرُ الْمَذْهَبِ أَنَّهُ لَا يُقْطَعُ وَعَلَيْهِ يَدُلُّ كَلَامُ الشَّافِعِيِّ ثُمَّ قَدْ ظَهَرَ أَنَّهُ لَا إجْمَاعَ عَلَى قَبُولِ شَهَادَتِهِمْ، وَمِنْ ثَمَّةَ فِي الِاخْتِيَارِ وَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْمُجَسِّمَةِ؛ لِأَنَّهُمْ كَفَرَةٌ وَيُوَافِقُهُ مَا فِي الْمَوَاقِفِ وَقَدْ كَفَّرَ الْمُجَسِّمَةَ مُخَالِفُوهُمْ قَالَ الشَّارِحُونَ مِنْ أَصْحَابِنَا وَالْمُعْتَزِلَةِ وَقَالَ شَيْخُنَا الْمُصَنِّفُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي الْمُسَايَرَةِ، وَهُوَ أَظْهَرُ، فَإِنَّ إطْلَاقَ الْجِسْمِ مُخْتَارًا بَعْدَ عِلْمِهِ بِمَا فِيهِ مِنْ اقْتِضَاءِ النَّقْصِ اسْتِخْفَافٌ انْتَهَى.
نَعَمْ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ، وَالْجَمَاعَةِ مَنْ لَمْ يُكَفِّرْهُمْ بِنَاءً عَلَى أَنَّ لَازِمَ الْمَذْهَبِ لَيْسَ بِمَذْهَبٍ لِصَاحِبِهِ فَمَنْ يَلْزَمُهُ الْكُفْرُ وَلَمْ يَقُلْ بِهِ فَلَيْسَ بِكَافِرٍ، وَعَلَيْهِ مَشَى الْإِمَامُ الرَّازِيّ وَالشَّيْخُ عِزُّ الدِّينِ بْنُ عَبْدِ السَّلَامِ ثُمَّ كَيْفَ يَكُونُ فِي قَبُولِ شَهَادَةِ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ إجْمَاعٌ وَمَالِكٌ لَا يَقْبَلُهَا، وَلَوْ لَمْ يُكَفَّرُوا بِأَهْوَائِهِمْ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُمْ فَسَقَةٌ وَتَابَعَهُ أَبُو حَامِدٍ مِنْ الشَّافِعِيَّةِ اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يُرَادَ إجْمَاعُ مَنْ قَبْلَهُ، وَهُوَ يَحْتَاجُ إلَى ثَبْتٍ فِيهِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ وَهَذَا هُوَ الْجَهْلُ الثَّانِي مِنْ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ مِنْ أَقْسَامِ الْجَهْلِ الثَّلَاثَةِ
(وَجَهْلُ الْبَاغِي، وَهُوَ) الْمُسْلِمُ (الْخَارِجُ عَلَى الْإِمَامِ الْحَقِّ) ظَانًّا أَنَّهُ عَلَى الْحَقِّ، وَالْإِمَامَ عَلَى الْبَاطِلِ مُتَمَسِّكًا بِذَلِكَ (بِتَأْوِيلٍ فَاسِدٍ) ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ تَأْوِيلٌ فَحُكْمُهُ حُكْمُ اللُّصُوصِ، وَهُوَ لَا يَصْلُحُ عُذْرًا لِمُخَالَفَتِهِ التَّأْوِيلَ الْوَاضِحَ، فَإِنَّ الدَّلَائِلَ عَلَى كَوْنِ الْإِمَامِ الْحَقِّ عَلَى الْحَقِّ مِثْلَ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ وَمَنْ سَلَكَ طَرِيقَهُمْ ظَاهِرَةٌ عَلَى وَجْهٍ يُعَدُّ جَاحِدُهَا مُكَابِرًا مُعَانِدًا قَالُوا: وَهَذَانِ الْجَهْلَانِ دُونَ الْجَهْلِ الْأَوَّلِ.
وَأَمَّا قَوْلُ الْمُصَنِّفِ جَهْلُ الْبَاغِي (دُونَ جَهْلِ الْمُبْتَدِعَةِ) فَلَمْ أَقِفْ عَلَى تَصْرِيحِهِمْ بِهِ نَعَمْ (لَمْ يُكَفِّرْهُ) أَيْ الْبَاغِيَ (أَحَدٌ إلَّا أَنْ يُضَمَّ) الْبَاغِي (أَمْرًا آخَرَ) يَكْفُرُ بِهِ إلَى الْبَغْيِ (وَقَالَ عَلِيٌّ: - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إخْوَانُنَا بَغَوْا عَلَيْنَا) فَأَطْلَقَ عَلَيْهِمْ أُخُوَّةَ الْمُسْلِمِينَ وَظَاهِرُ ذَلِكَ لَا يُقَالُ لِلْكَافِرِ (فَنُنَاظِرُهُ) أَيْ الْبَاغِيَ (لِكَشْفِ شُبْهَتِهِ) لَعَلَّهُ يَرْجِعُ إلَى طَاعَةِ الْإِمَامِ الْحَقِّ بِلَا قِتَالٍ (بَعَثَ عَلِيٌّ ابْنَ عَبَّاسٍ لِذَلِكَ) كَمَا أَخْرَجَهُ بِطُولِهِ النَّسَائِيُّ وَغَيْرُهُ.
(فَإِنْ رَجَعَ) الْبَاغِي إلَى طَاعَةِ الْإِمَامِ الْحَقِّ (بِاَلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ، وَإِلَّا وَجَبَ جِهَادُهُ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} [الحجرات: ٩] أَيْ تَرْجِعَ إلَى كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلِأَنَّ الْبَغْيَ مَعْصِيَةٌ وَمُنْكَرٌ، وَالنَّهْيُ عَنْ الْمُنْكَرِ فَرْضٌ وَذَلِكَ بِالْقِتَالِ حِينَئِذٍ، وَقِيلَ: إنَّمَا تَجِبُ مُحَارَبَتُهُمْ إذَا تَجَمَّعُوا وَعَزَمُوا عَلَى الْقِتَالِ؛ لِأَنَّهَا إنَّمَا تَجِبُ بِطَرِيقِ الدَّفْعِ ثُمَّ ظَاهِرُ هَذَا السَّوْقِ يُفِيدُ أَنَّ هَذِهِ الدَّعْوَةَ لَهُمْ قَبْلَ الْقِتَالِ وَاجِبَةٌ، وَأَنَّ الْقِتَالَ إنَّمَا يَجِبُ بَعْدَهَا وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ الْقِتَالُ وَاجِبٌ قَبْلَهَا، وَأَنَّ تَقْدِيمَهَا عَلَيْهِ أَحْسَنُ كَمَا فِي الْمَبْسُوطِ، أَوْ مُسْتَحَبٌّ كَمَا فِي الِاخْتِيَارِ؛ لِأَنَّهُمْ عَلِمُوا لِمَاذَا يُقَاتَلُونَ فَصَارُوا كَالْمُرْتَدِّينَ (وَمَا لَمْ يَصِرْ لَهُ) أَيْ الْبَاغِي (مَنَعَةٌ) بِالتَّحْرِيكِ، وَقَدْ يُسَكَّنُ أَيْ قُوَّةٌ يَمْنَعُ بِهَا مَنْ قَصَدَ مِنْ الْأَعْدَاءِ (فَيَجْرِي عَلَيْهِ) أَيْ الْبَاغِي (الْحُكْمُ الْمَعْرُوفُ) فِي قِصَاصِ النُّفُوسِ وَغَرَامَاتِ الْأَمْوَالِ وَغَيْرِهَا بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ لِبَقَاءِ وِلَايَةِ الْإِلْزَامِ فِي حَقِّهِ كَمَا فِي حَقِّهِمْ (فَيُقْتَلُ) الْبَاغِي (بِالْقَتْلِ) الْعَمْدِ لِلْعُدْوَانِ (وَيَحْرُمُ بِهِ) أَيْ بِالْقَتْلِ الْمَذْكُورِ لِمُوَرِّثِهِ الْإِرْثُ مِنْهُ (وَمَعَهَا) أَيْ الْمَنَعَةِ (لَا) يَجْرِي عَلَيْهِ الْحُكْمُ الْمَعْرُوفُ (لِقُصُورِ الدَّلِيلِ عَنْهُ) أَيْ الْبَاغِي (لِسُقُوطِ إلْزَامِهِ) بِسَبَبِ تَأْوِيلِهِ الَّذِي اسْتَنَدَ إلَيْهِ لِدَفْعِ الْخِطَابِ عَنْهُ (وَالْعَجْزُ عَنْ إلْزَامِهِ) حِسًّا وَحَقِيقَةً فِيمَا يَحْتَمِلُ السُّقُوطَ، وَهُوَ حَقُّ الْعَبْدِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute