مِنْ إثْبَاتِ الْمِيرَاثِ (وَلَا يَمْلِكُ مَالَهُ) أَيْ الْبَاغِي (بِوَحْدَةِ الدَّارِ) أَيْ بِسَبَبِ اتِّحَادِ دَارِ الْعَادِلِ، وَالْبَاغِي؛ لِأَنَّهُمَا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ إذْ تَمَلُّكُ الْمَالِ بِطَرِيقِ الِاسْتِيلَاءِ يَتَوَقَّفُ عَلَى كَمَالِ اخْتِلَافِ الدَّارِ، وَهُوَ مُنْتَفٍ ثُمَّ (عَلَى هَذَا) أَيْ عَدَمُ تَمَلُّكِ مَالِ الْبَاغِي (اتَّفَقَ عَلِيٌّ، وَالصَّحَابَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -) فَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ أَنَّ عَلِيًّا لَمَّا هَزَمَ طَلْحَةَ وَأَصْحَابَهُ أَمَرَ مُنَادِيَهُ فَنَادَى أَنْ لَا يُقْتَلَ مُقْبِلٌ وَلَا مُدْبِرٌ وَلَا يُفْتَحَ بَابٌ وَلَا يُسْتَحَلَّ فَرْجٌ وَلَا مَالٌ وَزَادَ فِي رِوَايَةٍ وَلَمْ يَأْخُذْ مِنْ مَتَاعِهِمْ شَيْئًا وَأَخْرَجَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَزَادَ فِيهِ وَكَانَ عَلِيٌّ لَا يَأْخُذُ مَالًا لِمَقْتُولٍ وَيَقُولُ: مَنْ عَرَّفَ شَيْئًا فَلْيَأْخُذْهُ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ وَلَمْ يُنْقَلْ عَنْ غَيْرِهِ مِنْ الصَّحَابَةِ مُخَالَفَتُهُ فَكَانَ اتِّفَاقًا وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ
وَهَذَا هُوَ الْجَهْلُ الثَّالِثُ مِنْ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ مِنْ أَقْسَامِ الْجَهْلِ الثَّلَاثَةِ
(وَجَهْلُ مَنْ عَارَضَ مُجْتَهِدُهُ الْكِتَابَ كَحِلِّ مَتْرُوكِ التَّسْمِيَةِ عَمْدًا وَ) جَوَازُ (الْقَضَاءُ بِشَاهِدٍ وَيَمِينٍ) مِنْ الْمُدَّعِي (مَعَ {وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} [الأنعام: ١٢١] الْآيَةَ قَالَ الْفَاضِلُ الْقَاآنِي وَفِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّ الْمُخَالَفَةَ إنَّمَا تَتَحَقَّقُ بَيْنَهُمَا أَنْ لَوْ لَمْ يَكُنْ قَوْله تَعَالَى: {مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} [الأنعام: ١٢١] كِنَايَةً عَمَّا لَمْ يَذْبَحْهُ مُوَحِّدٌ، وَهُوَ مَمْنُوعٌ سَلَّمْنَا أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى ظَاهِرِهِ وَلَكِنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الذِّكْرُ الْقَلْبِيُّ كَافِيًا فَلِمَ قُلْت: إنَّهُ لَيْسَ بِكَافٍ فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ دَلِيلٍ انْتَهَى وَأُجِيبَ بِمَنْعِ إرَادَةِ هَذَا الِاحْتِمَالِ هُنَا؛ لِأَنَّهُ تَعَالَى قَرَنَ الذِّكْرَ بِكَلِمَةِ عَلَى، وَهُوَ يُفِيدُ إرَادَتَهُ بِاللِّسَانِ؛ لِأَنَّهُ يُقَالُ: ذُكِرَ عَلَيْهِ وَسُمِّيَ عَلَيْهِ بِلِسَانِهِ، وَلَا يُقَالُ بِقَلْبِهِ قُلْت عَلَى أَنَّهُ أَيْضًا لَمْ يَرُدَّ الْقَائِلُونَ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِالذِّكْرِ الذِّكْرِ الْقَلْبِيِّ حَقِيقَتُهُ، وَهُوَ حُضُورُ الْمَعْنَى لِلنَّفْسِ كَمَا هُوَ نَقِيضُ النِّسْيَانِ، وَهُوَ ذَهَابُ الْمَعْنَى مِنْ النَّفْسِ لِلُزُومِ عَدَمِ جَوَازِ أَكْلِ مَا نُسِيَ ذِكْرُ اللَّهِ عَلَيْهِ حِينَئِذٍ بَلْ أُرِيدَ بِهِ مَا أُقِيمَ مَقَامَهُ، وَهُوَ الْمِلَّةُ لِيَدْخُلَ النِّسْيَانُ أَيْضًا وَأَيْضًا النَّهْيُ يَقْتَضِي تَصَوُّرَ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ وَبِحَمْلِ الذِّكْرِ عَلَى الذِّكْرِ الْقَلْبِيِّ ثُمَّ إقَامَةِ الْمِلَّةِ مَقَامَهُ لَا يَكُونُ الْمَنْهِيُّ عَنْهُ مُتَصَوَّرًا فَتَعَيَّنَ إرَادَةُ الذِّكْرِ اللِّسَانِيِّ لِيَكُونَ الْمَنْهِيُّ عَنْهُ مُتَصَوَّرًا، وَفِي غَايَةِ الْبَيَانِ وَلَا يُقَالُ: الْمُرَادُ ذَبِيحَةُ الْمُشْرِكِ، وَالْمَجُوسِيِّ فَيُتَصَوَّرُ الْمَنْهِيُّ عَنْهُ؛ لِأَنَّا نَقُولُ: حُرْمَةُ ذَبَائِحِهِمْ لَا بِاعْتِبَارِ تَرْكِ التَّسْمِيَةِ، فَإِنَّ الْمُشْرِكَ لَا تَحِلُّ ذَبِيحَتُهُ، وَإِنْ سَمَّى اللَّهَ تَعَالَى انْتَهَى.
هَذَا وَكَوْنُ مَا لَمْ يُذْكَرْ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ كِنَايَةً عَمَّا لَمْ يَذْبَحْهُ مُوَحِّدٌ سَوَاءٌ كَانَ مَيْتَةً، أَوْ ذُكِرَ غَيْرُ اسْمِ اللَّهِ عَلَيْهِ، وَقَدْ يُؤَيَّدُ بِقَوْلِهِ: {وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ} [الأنعام: ١٢١] ، وَالْفِسْقُ مَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ تَأْوِيلٌ مُخَالِفٌ لِلظَّاهِرِ مُحْوِجٌ إلَى مُعَيَّنٍ لَهُ، وَالشَّأْنُ فِي ذَلِكَ نَعَمْ ظَاهِرُ الْآيَةِ حُرْمَةُ أَكْلِ مَا لَمْ يُذْكَرْ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ مِنْ الْحَيَوَانِ وَغَيْرِهِ لَكِنَّ سَوْقَ الْكَلَامِ وَسَبَبَ النُّزُولِ وَإِجْمَاعَ مَنْ عَدَا عَطَاءً دَلَّ عَلَى التَّخْصِيصِ بِاللَّحْمِ، وَالشَّحْمِ وَنَحْوِهِمَا مِنْ أَعْضَاءِ الْحَيَوَانِ وَأَجْزَائِهِ ثُمَّ هُوَ يَعُمُّ مَتْرُوكَ التَّسْمِيَةِ مُطْلَقًا كَمَا ذَهَبَ إلَيْهِ دَاوُد وَبِشْرٌ لَكِنْ خَرَجَ مَتْرُوكُ التَّسْمِيَةِ نِسْيَانًا إمَّا بِالْإِجْمَاعِ عَلَى مَا حَكَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ وَغَيْرُهُ عَلَى مَا فِيهِ مِنْ بَحْثٍ؛ لِأَنَّهُ إنْ أُرِيدَ الصَّدْرُ الْأَوَّلُ فَيَخْدِشُهُ مَا أَخْرَجَ الشَّيْخُ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيّ أَنَّ قَصَّابًا ذَبَحَ شَاةً وَنَسِيَ أَنْ يَذْكُرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهَا فَأَمَرَ ابْنُ عُمَرَ غُلَامًا لَهُ أَنْ يَقُومَ عِنْدَهُ، فَإِذَا جَاءَ إنْسَانٌ يَشْتَرِي يَقُولُ لَهُ: إنَّ ابْنَ عُمَرَ يَقُولُ لَك هَذِهِ شَاةٌ لَمْ تُذَكَّ فَلَا تَشْتَرِ مِنْهَا شَيْئًا وَأَخْرَجَ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِمَا قَالُوا: لَا بَأْسَ بِأَكْلِ مَا نُسِيَ أَنْ يُسَمَّى عَلَيْهِ عِنْدَ الذَّبْحِ وَقَالُوا: إنَّمَا هِيَ عَلَى الْمِلَّةِ، وَإِنْ أُرِيدَ مَنْ بَعْدَهُمْ فَصَحِيحٌ إذْ لَمْ يَصِحَّ عَنْ مَالِكٍ وَلَا أَحْمَدَ عَدَمُ الْأَكْلِ فِي النِّسْيَانِ وَلَمْ يُعْتَبَرْ قَوْلُ دَاوُد وَبِشْرٍ فِي الْإِجْمَاعِ عَلَى مِثْلِهِ.
وَإِمَّا؛ لِأَنَّ النَّاسِيَ لَيْسَ بِتَارِكٍ لِذِكْرِ اسْمِ اللَّهِ فِي الْمَعْنَى عَلَى مَا قَالُوا لِمَا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ «سَأَلَ رَجُلٌ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الرَّجُلُ مِنَّا يَذْبَحُ وَيَنْسَى أَنْ يُسَمِّيَ اللَّهَ قَالَ: اسْمُ اللَّهِ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ» وَفِي لَفْظٍ «عَلَى فَمِ كُلِّ مُسْلِمٍ» أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ وَابْنُ عَدِيٍّ لَكِنْ فِيهِ مَرْوَانُ بْنُ سَالِمٍ مَتْرُوكٌ لَكِنْ يَشُدُّهُ مَا قَدَّمْنَاهُ فِي بَحْثِ فَسَادِ الِاعْتِبَارِ مِنْ مَرَاسِيلِ أَبِي دَاوُد ثُمَّ ظَاهِرُهُمَا أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ النَّاسِي، وَالْعَامِدِ وَبِهِ تَتَضَاءَلُ التَّفْرِقَةُ بَيْنَهُمَا بِعُذْرِ النَّاسِي؛ لِأَنَّ النِّسْيَانَ مِنْ قِبَلِ مَنْ لَهُ الْحَقُّ فَأَقَامَ الشَّارِعُ الْمِلَّةَ مَقَامَ التَّسْمِيَةِ فَجَعَلَ عَفْوًا دَافِعًا لِلْعَجْزِ وَعَدَمَ عُذْرِ الْعَامِدِ؛ لِأَنَّ التَّرْكَ مِنْ قِبَلِهِ فَلَمْ يَكُنْ فِي مَعْنَاهُ، فَإِنَّ هَذَا إبْطَالُ النَّصِّ بِالْمَعْنَى، وَهُوَ غَيْرُ جَائِزٍ عَلَى أَنَّهُ يَرُدُّ عَلَى هَذَا أَيْضًا بِالنِّسْبَةِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute