الْقَاضِي الْمُجْتَهِدِ الْمُفَوَّضِ إلَيْهِ الْحُكْمُ بِاجْتِهَادِهِ عَلَى مَا فِي ذَلِكَ مِنْ خِلَافٍ فَلْيُتَنَبَّهْ لَهُ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ وَهَذَا هُوَ الْجَهْلُ الرَّابِعُ مِنْ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ مِنْ أَقْسَامِ الْجَهْلِ الثَّلَاثَةِ
الْقِسْمُ (الثَّانِي) مِنْ أَقْسَامِ الْجَهْلِ الثَّلَاثَةِ (جَهْلٌ يَصْلُحُ شُبْهَةً) دَرَاءَةً لِلْحَدِّ، وَالْكَفَّارَةِ وَعُذْرًا فِي غَيْرِهِمَا وَكَانَ الْأَوْلَى ذِكْرُهُ مِثَالُ هَذَا (كَالْجَهْلِ فِي مَوْضِعِ اجْتِهَادٍ صَحِيحٍ بِأَنْ لَمْ يُخَالِفْ) الِاجْتِهَادُ (مَا ذَكَرَ) أَيْ الْكِتَابَ، أَوْ السُّنَّةَ الْمَشْهُورَةَ، أَوْ الْإِجْمَاعَ، وَكَانَ فِي مَنَاطِ الْحُكْمِ فِيهِ خَفَاءٌ، وَقَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيهِ (كَمَنْ صَلَّى الظُّهْرَ بِلَا وُضُوءٍ) ظَانًّا أَنَّهُ عَلَى وُضُوءٍ (ثُمَّ صَلَّى الْعَصْرَ بِهِ) أَيْ بِوُضُوءٍ (ثُمَّ ذَكَرَ) أَنَّهُ صَلَّى الظُّهْرَ بِلَا وُضُوءٍ (فَقَضَى الظُّهْرَ فَقَطْ ثُمَّ صَلَّى الْمَغْرِبَ يَظُنُّ جَوَازَ الْعَصْرِ) بِجَهْلِهِ بِوُجُوبِ التَّرْتِيبِ (جَازَ) أَدَاؤُهُ صَلَاةَ الْمَغْرِبِ (لِأَنَّهُ) أَيْ ظَنَّهُ جَوَازَ الْعَصْرِ (فِي مَوْضِعِ الِاجْتِهَادِ) الصَّحِيحِ (فِي تَرْتِيبِ الْفَوَائِتِ) ؛ لِأَنَّ فِي مَنَاطِ الْحُكْمِ بِوُجُوبِهِ فِيهَا نَوْعَ خَفَاءٍ وَلِهَذَا وَقَعَ فِيهِ خِلَافٌ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ ثُمَّ خِلَافُهُمْ مُعْتَبَرٌ لَيْسَ فِيهِ مُخَالَفَةٌ لِشَيْءٍ مِمَّا ذُكِرَ فَكَانَ دَلِيلًا شَرْعِيًّا صَالِحًا لِإِفَادَةِ ظَنِّ جَوَازِ الْعَصْرِ، فَإِنْ كَانَتْ فِي الْحَقِيقَةِ إنَّمَا أُدِّيَتْ قَبْلَ الظُّهْرِ حَتَّى كَانَ عَلَيْهِ قَضَاءُ الْعَصْرِ فَكَانَ هَذَا الْجَهْلُ عُذْرًا فِي جَوَازِ الْمَغْرِبِ لَا الْعَصْرِ.
وَالْفَرْقُ أَنَّ فَسَادَ الظُّهْرِ بِتَرْكِ الْوُضُوءِ فَسَادٌ قَوِيٌّ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ فَكَانَتْ مَتْرُوكَةً بِيَقِينٍ فَيَظْهَرُ أَثَرُ الْفَسَادِ فِيمَا يُؤَدَّى بَعْدَهَا وَلَمْ يُعْذَرْ بِالْجَهْلِ وَفَسَادُ الْعَصْرِ بِتَرْكِ التَّرْتِيبِ ضَعِيفٌ مُخْتَلَفٌ فِيهِ فَلَمْ تَكُنْ مَتْرُوكَةً بِيَقِينٍ فَلَمْ يَتَعَدَّ حُكْمُهُ إلَى صَلَاةٍ أُخْرَى؛ لِأَنَّ وُجُوبَ التَّرْتِيبِ ثَبَتَ بِالسُّنَّةِ فِي مَتْرُوكِهِ بِيَقِينٍ عِلْمًا وَعَمَلًا وَكَانَ الْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ يَقُولُ: إنَّمَا يَجِبُ مُرَاعَاةُ التَّرْتِيبِ عَلَى مَنْ يَعْلَمُ فَأَمَّا مَنْ لَا يَعْلَمُ بِهِ فَلَيْسَ عَلَيْهِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ ضَعِيفٌ فِي نَفْسِهِ فَلَا يَثْبُتُ حُكْمُهُ فِي حَقِّ مَنْ لَا يَعْلَمُ بِهِ وَكَانَ زُفَرُ يَقُولُ: إذَا كَانَ عِنْدَهُ أَنَّ ذَلِكَ يُجْزِيهِ فَهُوَ فِي مَعْنَى النَّاسِي لِلْفَائِتَةِ فَيَجْزِيهِ فَرْضُ الْوَقْتِ وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ إنْ كَانَ الرَّجُلُ مُجْتَهِدًا قَدْ ظَهَرَ عِنْدَهُ أَنَّ مُرَاعَاةَ التَّرْتِيبِ غَيْرُ وَاجِبٍ فَهُوَ دَلِيلٌ شَرْعِيٌّ، وَكَذَا إنْ كَانَ نَاسِيًا، فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ مَعْذُورٌ غَيْرُ مُخَاطَبٍ بِأَدَاءِ الثَّانِيَةِ قَبْلَ أَنْ يَذْكُرَهَا بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ ذَاكِرًا، وَهُوَ غَيْرُ مُجْتَهِدٍ، فَإِنَّ مُجَرَّدَ ظَنِّهِ لَيْسَ بِدَلِيلٍ شَرْعِيٍّ فَلَا يُعْتَبَرُ وَمِثَالُ الْأَوَّلِ مَا أَشَارَ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ: (وَكَقَتْلِ أَحَدِ الْوَلِيَّيْنِ) قَاتِلُ مُوَلِّيهِ عَمْدًا عُدْوَانًا (بَعْدَ عَفْوِ) الْوَلِيِّ (الْآخَرِ) جَاهِلًا بِعَفْوِهِ، أَوْ بِسُقُوطِ الْقَوَدِ بِعَفْوِهِ مُعْتَمِدًا عَلَى ظَنِّ أَنَّ الْقَوَدَ لَهُ (لَا يُقْتَصُّ مِنْهُ) ؛ لِأَنَّ هَذَا جَهْلٌ فِي مَوْضِعِ الِاجْتِهَادِ (لِقَوْلِ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ) مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ عَلَى مَا فِي التَّهْذِيبِ (بِعَدَمِ سُقُوطِهِ) أَيْ الْقِصَاصِ الثَّابِتِ لِلْوَرَثَةِ (بِعَفْوِ أَحَدِهِمْ) حَتَّى لَوْ عَفَا أَحَدُهُمْ كَانَ لِلْبَاقِينَ الْقَتْلُ هَذَا إذَا لَمْ يُوجَدْ الْإِجْمَاعُ سَابِقًا عَلَى هَذَا الْقَوْلِ، أَوْ لَاحِقًا إنْ ثَبَتَ عَمَّنْ يُعْتَدُّ بِخِلَافِهِ وَإِلَّا فَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا مُخَالِفٌ لِلْإِجْمَاعِ؛ لِأَنَّ الِاجْتِهَادَ، وَإِنْ كَانَ يَقْتَضِي أَنَّ لِكُلٍّ وِلَايَةَ الِاسْتِيفَاءِ بَعْدَ عَفْوِ أَحَدِهِمَا لَمْ يَقُلْ بِهِ أَحَدٌ مِنْ الْفُقَهَاءِ فَلَا يَكُونُ ذَلِكَ الِاجْتِهَادُ صَحِيحًا وَحِينَئِذٍ، فَإِنَّمَا يَكُونُ هَذَا الْجَهْلُ شُبْهَةً فِي إسْقَاطِ الْقَوَدِ؛ لِأَنَّهُ جَهْلٌ فِي مَوْضِعِ الِاشْتِبَاهِ أَمَّا عَلَى التَّقْدِيرِ الْأَوَّلِ فَلِأَنَّهُ عَلِمَ وُجُوبَ الْقِصَاصِ وَمَا ثَبَتَ فَالظَّاهِرُ بَقَاؤُهُ، وَالظَّاهِرُ يَكُونُ شُبْهَةً فِي دَرْءِ مَا يَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ.
وَأَمَّا عَلَى التَّقْدِيرِ الثَّانِي فَلِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ تَصَرُّفَ غَيْرِهِ فِي حَقِّهِ غَيْرُ نَافِذٍ عَلَيْهِ وَسُقُوطُ الْقَوَدِ لِمَعْنًى خَفِيٍّ، وَهُوَ أَنَّ الْقَوَدَ لَا يَقْبَلُ التَّجَزُّؤَ فَاشْتَبَهَ عَلَيْهِ حُكْمٌ قَدْ يُشْتَبَهُ فَيَصِيرُ بِمَنْزِلَةِ الظَّاهِرِ فِي إيرَاثِ الشُّبْهَةِ (فَصَارَ) الْجَهْلُ الْمَذْكُورُ (شُبْهَةً تَدْرَأُ الْقِصَاصَ) ، وَقَدْ يَسْقُطُ الْقَوَدُ بِاعْتِبَارِ الظَّنِّ كَمَا لَوْ رَمَى إلَى شَخْصٍ ظَنَّهُ كَافِرًا، فَإِذَا هُوَ مُسْلِمٌ، وَإِذَا سَقَطَ الْقَوَدُ بِالشُّبْهَةِ لَزِمَهُ الدِّيَةُ فِي مَالِهِ؛ لِأَنَّ فِعْلَهُ عَمْدٌ وَيُحْسَبُ لَهُ مِنْهَا نِصْفُ الدِّيَةِ؛ لِأَنَّ بِعَفْوِ شَرِيكِهِ وَجَبَ لَهُ نِصْفُ الدِّيَةِ عَلَى الْمَقْتُولِ فَيَصِيرُ نِصْفُ الدِّيَةِ قِصَاصًا بِالنِّصْفِ وَيُؤَدِّي مَا بَقِيَ أَمَّا لَوْ عَلِمَ سُقُوطَ الْقَوَدِ بِالْعَفْوِ ثُمَّ قَتَلَهُ عَمْدًا يَجِبُ الْقَوَدُ لِإِقْدَامِهِ عَلَى الْقَتْلِ مَعَ الْعِلْمِ بِالْحُرْمَةِ ثُمَّ هَذَا كُلُّهُ عِنْدَ عُلَمَائِنَا الثَّلَاثَةِ وَقَالَ زُفَرُ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ لِسُقُوطِ الْقَوَدِ بِالْعَفْوِ عَلِمَ بِهِ، أَوْ لَا اشْتَبَهَ عَلَيْهِ حُكْمُهُ، أَوْ لَا؛ لِأَنَّ مُجَرَّدَ الظَّنِّ غَيْرُ مَانِعٍ مِنْ وُجُوبِ الْقَوَدِ بَعْدَ مَا تَقَرَّرَ سَبَبُهُ كَمَا لَوْ قَتَلَ رَجُلًا عَلَى ظَنِّ أَنَّهُ قَتَلَ وَلِيَّهُ ثُمَّ جَاءَ وَلِيُّهُ حَيًّا، وَقَدْ انْطَوَى دَفْعُهُ فِيمَا تَقَدَّمَ.
(وَ) مِثْلُ (الْمُحْتَجِمِ) فِي
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute