نَهَارِ رَمَضَانَ (إذَا ظَنَّهَا) أَيْ الْحِجَامَةَ (فَطَّرَتْهُ) فَأَفْطَرَ بَعْدَهَا (لَا كَفَّارَةَ) عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا عَلَيْهِ الْقَضَاءُ لَا غَيْرُ (لِأَنَّ) قَوْلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَفْطَرَ الْحَاجِمُ، وَالْمَحْجُومُ» ) رَوَاهُ أَصْحَابُ السُّنَنِ وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ، وَالْحَاكِمُ (أَوْرَثَ شُبْهَةً فِيهِ) أَيْ فِي وُجُوبِهَا بِالْفِطْرِ بَعْدَ الْحِجَامَةِ (وَهَذِهِ الْكَفَّارَةُ يَغْلِبُ فِيهَا مَعْنَى الْعُقُوبَةِ) عَلَى الْعِبَادَةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ (فَتَنْتَفِي بِالشُّبْهَةِ) كَمَا تَقَدَّمَ فِي فَصْلِ الْحَاكِمِ وَهَذَا يُشِيرُ إلَى أَنَّ فِطْرَهُ بَعْدَ الْحِجَامَةِ كَانَ اعْتِمَادًا عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ غَيْرَ عَالِمٍ بِتَأْوِيلِهِ وَنَسْخِهِ، وَهُوَ عَامِّيٌّ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ؛ لِأَنَّ قَوْلَ الْمُفْتِي الْمُعْتَمَدُ فِي فَتْوَاهُ فِي بَلَدِهِ إذَا كَانَ يُورِثُ الشُّبْهَةَ الْمُسْقِطَةَ حَتَّى لَوْ أَفْتَاهُ بِالْفَسَادِ كَمَا هُوَ قَوْلُ أَحْمَدَ فَأَفْطَرَ بَعْدَهُ لَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ فِي حَقِّ الْعَمَلِ فَتْوَى مُفْتِيهِ، وَإِنْ كَانَ مُخْطِئًا فِيمَا أَفْتَى بِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا دَلِيلَ لَهُ سِوَاهُ فَكَانَ مَعْذُورًا
وَلَا عُقُوبَةَ عَلَى الْمَعْذُورِ فَقَوْلُ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوْلَى؛ لِأَنَّهُ الْأَصْلُ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ لِلْعَامِّيِّ الْأَخْذُ بِظَاهِرِ الْحَدِيثِ لِجَوَازِ كَوْنِهِ مَصْرُوفًا عَنْ ظَاهِرِهِ، أَوْ مَنْسُوخًا بَلْ عَلَيْهِ الرُّجُوعُ إلَى الْفُقَهَاءِ لِعَدَمِ الِاهْتِدَاءِ فِي حَقِّهِ إلَى مَعْرِفَةِ صَحِيحِ الْأَخْبَارِ وَسَقِيمِهَا وَنَاسِخِهَا وَمَنْسُوخِهَا، فَإِذَا اعْتَمَدَهُ كَانَ تَارِكًا لِلْوَاجِبِ عَلَيْهِ، وَتَرْكُ الْوَاجِبِ لَا يَقُومُ بِهِ شُبْهَةٌ مُسْقِطَةٌ لَهَا بَقِيَ لَوْ أَفْطَرَ بَعْدَهَا ظَانًّا الْفِطْرَ بِهَا وَلَمْ يَسْتَفْتِ عَالِمًا وَلَمْ يَبْلُغْهُ الْحَدِيثُ أَصْلًا، أَوْ بَلَغَهُ وَلَكِنْ عَلِمَ تَأْوِيلَهُ، أَوْ نَسْخَهُ وَلَا إشْكَالَ فِي وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ عَلَيْهِ اتِّفَاقًا أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِأَنَّ الظَّنَّ مَا اسْتَنَدَ إلَى دَلِيلٍ شَرْعِيٍّ، وَالْقِيَاسُ لَا يَقْتَضِي ثُبُوتَ الْفِطْرِ بِمَا خَرَجَ فَيَكُونُ ظَنُّهُ مُجَرَّدَ جَهْلٍ، وَهُوَ لَا يَكُونُ عُذْرًا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، وَأَمَّا الثَّانِي فَلِتَعَاضُدِ عِلْمِهِ بِكَوْنِ الْحَدِيثِ عَلَى غَيْرِ ظَاهِرِهِ، أَوْ نَسْخِهِ مَعَ كَوْنِ الْفِطْرِ بِهَا عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ عَلَى وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ لِانْتِفَاءِ الشُّبْهَةِ حِينَئِذٍ فِي وُجُوبِهَا قَالُوا: وَإِنْ عَلِمَ أَنَّ بَعْضَ الْعُلَمَاءِ قَالَ بِالْفِطْرِ بِهَا وَلَكِنْ فِي هَذَا نَظَرٌ
(وَمِنْ زَنَى بِجَارِيَةِ وَالِدِهِ) ، أَوْ وَالِدَتِهِ (أَوْ زَوْجَتِهِ يَظُنُّ حِلَّهَا لَا يُحَدُّ) عِنْدَ عُلَمَائِنَا الثَّلَاثَةِ وَقَالَ زُفَرُ: يُحَدُّ لِلْوَطْءِ الْخَالِي عَنْ الْمِلْكِ وَشُبْهَتِهِ وَلَا عِبْرَةَ بِتَأْوِيلِهِ الْفَاسِدِ كَمَا لَوْ وَطِئَ جَارِيَةَ أَخِيهِ، أَوْ عَمِّهِ عَلَى ظَنِّ الْحِلِّ وَهُمْ يَقُولُونَ لَا يُحَدُّ (لِلِاشْتِبَاهِ) ؛ لِأَنَّ بَيْنَ الْإِنْسَانِ وَأَبِيهِ وَأُمِّهِ وَزَوْجَتِهِ انْبِسَاطًا فِي الِانْتِفَاعِ بِالْمَالِ فَظَنُّهُ حِلَّ الِاسْتِمْتَاعِ بِأَمَتِهِمْ اعْتِمَادٌ عَلَى شُبْهَةٍ فِي ذَلِكَ فَانْدَرَأَ الْحَدُّ بِهَا بِخِلَافِ الْأَخِ، وَالْعَمِّ، فَإِنَّهُ لَا انْبِسَاطَ لِكُلٍّ مِنْهُ، وَمِنْهُمَا فِي مَالِ الْآخَرِ فَدَعْوَى ظَنِّهِ الْحِلَّ لَيْسَتْ مُعْتَمِدَةً عَلَى شُبْهَةٍ فَلَا تُعْتَبَرُ (وَلَا يَثْبُتُ نَسَبٌ) بِهَذَا الْوَطْءِ، وَإِنْ ادَّعَاهُ الْوَاطِئُ (وَلَا عِدَّةَ) أَيْضًا عَلَى الْمَوْطُوءَةِ بِهَذَا الْوَطْءِ (لِمَا) عُرِفَ (فِي مَوْضِعِهِ) مِنْ أَنَّهُ تَمَحُّضُ زِنَا إذْ لَا حَقَّ لَهُ فِي الْمَحِلِّ، وَالْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ وَلِلْعَاهِرِ الْحَجَرُ وَلَا عِدَّةَ مِنْ الزِّنَا، وَهَذِهِ إحْدَى الشُّبْهَتَيْنِ الدَّارِئَتَيْنِ لِلْحَدِّ عِنْدَهُمْ وَتُسَمَّى شُبْهَةً فِي الْفِعْلِ وَشُبْهَةَ اشْتِبَاهٍ؛ لِأَنَّهَا إنَّمَا تُؤَثِّرُ فِي سُقُوطِ الْحَدِّ عَلَى مَنْ اشْتَبَهَ عَلَيْهِ لَا عَلَى مَنْ لَمْ يَشْتَبِهْ عَلَيْهِ كَقَوْمٍ سُقُوا خَمْرًا عَلَى مَائِدَةٍ فَمَنْ عَلِمَ بِهَا وَجَبَ عَلَيْهِ الْحَدُّ وَمَنْ لَا فَلَا
وَالشُّبْهَةُ الْأُخْرَى وَتُسَمَّى الشُّبْهَةَ فِي الْمَحِلِّ وَشُبْهَةَ الدَّلِيلِ، وَالشُّبْهَةُ الْحُكْمِيَّةُ وُجُودُ الدَّلِيلِ النَّافِي لِلْحُرْمَةِ فِي ذَاتِهِ مَعَ تَخَلُّفِ حُكْمِهِ لِمَانِعٍ وَهَذِهِ لَا تَتَوَقَّفُ عَلَى الظَّنِّ كَوَطْءِ الْأَبِ جَارِيَةَ ابْنِهِ، فَإِنَّهُ لَا يُحَدُّ إنْ قَالَ: عَلِمْت أَنَّهَا حَرَامٌ عَلَيَّ؛ لِأَنَّ الْمُؤَثِّرَ فِي هَذِهِ الشُّبْهَةِ الدَّلِيلُ الشَّرْعِيُّ كَقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَنْتَ وَمَالُك لِأَبِيك» رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ، وَهُوَ قَائِمٌ فَيُؤَثِّرُ فِي سُقُوطِ الْحَدِّ مُطْلَقًا وَيَثْبُتُ بِهِ النَّسَبُ إذَا ادَّعَاهُ وَتَصِيرُ الْجَارِيَةُ بِهِ أُمَّ وَلَدٍ وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ شُبْهَةٌ أُخْرَى دَارِئَةٌ لِلْحَدِّ وَهِيَ شُبْهَةُ الْعَقْدِ سَوَاءٌ عَلِمَ الْحُرْمَةَ أَمْ لَا كَوَطْءِ الَّتِي تَزَوَّجَهَا بِغَيْرِ شُهُودٍ، وَإِنَّمَا لَمْ يَتَعَرَّضْ الْمُصَنِّفُ لِهَاتَيْنِ؛ لِأَنَّهُمَا لَيْسَتَا مِمَّا هُوَ بِصَدَدِهِ كَمَا هُوَ غَيْرُ خَافٍ ثُمَّ كَمَا قَالَ الْمُصَنِّفُ: وَمَعْنَى دَعْوَى ظَنِّهِ الْحِلَّ أَنَّهُ عَلِمَ أَنَّ الزِّنَا حَرَامٌ لَكِنْ ظَنَّ أَنَّ وَطْأَهُ لَيْسَ زِنًا مُحَرَّمًا فَلَا يُعَارِضُ مَا فِي الْمُحِيطِ الْآتِي قَرِيبًا (وَكَذَا حَرْبِيٌّ دَخَلَ دَارَنَا فَأَسْلَمَ فَشَرِبَ الْخَمْرَ جَاهِلًا بِالْحُرْمَةِ لَا يُحَدُّ) ؛ لِأَنَّهُ فِي مَوْضِعِ الشُّبْهَةِ يَحِلُّ شُرْبُهَا فِي وَقْتٍ (بِخِلَافِ مَا إذَا زَنَى) بَعْدَ دُخُولِهِ دَارَ الْإِسْلَامِ وَإِسْلَامِهِ زَاعِمًا حِلَّ الزِّنَا، فَإِنَّهُ لَا يُلْتَفَتُ إلَى زَعْمِهِ وَيُحَدُّ.
وَإِنْ فَعَلَهُ أَوَّلَ يَوْمِ دُخُولِهِ الدَّارَ وَإِسْلَامِهِ (لِأَنَّ جَهْلَهُ بِحُرْمَةِ الزِّنَا لَا يَكُونُ شُبْهَةً) دَارِئَةً لِلْحَدِّ عَنْهُ؛ لِأَنَّ هَذَا الظَّنَّ فِي غَيْرِ مَحِلِّ الشُّبْهَةِ (لِأَنَّ الزِّنَا حَرَامٌ فِي جَمِيعِ الْأَدْيَانِ) فَلَمْ يَتَوَقَّفْ الْعِلْمُ بِحُرْمَتِهِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute