للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

عَلَى بُلُوغِ خِطَابِ الشَّرْعِ لِتَحَقُّقِ حُرْمَتِهِ قَبْلَهُ (فَلَا يَكُونُ جَهْلُهُ عُذْرًا) لِكَوْنِهِ مِنْ تَقْصِيرِهِ فِي الطَّلَبِ (بِخِلَافِ الْخَمْرِ) ، فَإِنَّهَا لَمْ يَكُنْ شُرْبُهَا حَرَامًا فِي سَائِرِ الْأَدْيَانِ (فَمَا فِي الْمُحِيطِ وَغَيْرِهِ شَرْطُ الْحَدِّ أَنْ لَا يَظُنَّ الزِّنَا حَلَالًا مُشْكِلٌ) ، فَإِنَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ تُفِيدُ أَنَّ لَيْسَ شَرْطُ وُجُوبِ الْحَدِّ عَلَى الزَّانِي عَدَمَ ظَنِّهِ حِلَّ الزِّنَا حَتَّى يَكُونَ ظَنُّهُ حِلَّهُ مَانِعًا مِنْ إقَامَتِهِ عَلَيْهِ هَذَا وَاَلَّذِي فِي شَرْحِ الْهِدَايَةِ لِلْمُصَنِّفِ شَرْطُ وُجُوبِ الْحَدِّ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ الزِّنَا حَرَامٌ انْتَهَى، وَهُوَ أَخُصُّ مِمَّا هُنَا وَمَا فِي الشَّرْحِ هُوَ الْمَذْكُورُ فِي مُحِيطِ رَضِيِّ الدِّينِ وَهَذَا لَفْظُهُ، وَأَمَّا شَرْطُهُ فَالْعِلْمُ بِالتَّحْرِيمِ حَتَّى لَوْ لَمْ يَعْلَمْ لَمْ يَجِبْ الْحَدُّ لِلشُّبْهَةِ وَأَصْلُهُ مَا رَوَى سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ أَنَّ رَجُلًا زَنَى بِالْيَمَنِ فَكَتَبَ فِي ذَلِكَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إنْ كَانَ يَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى حَرَّمَ الزِّنَا فَاجْلِدُوهُ، وَإِنْ كَانَ لَا يَعْلَمُ فَعَلِّمُوهُ، وَإِنْ عَادَ فَاجْلِدُوهُ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ فِي الشَّرْعِيَّاتِ لَا يَثْبُتُ إلَّا بَعْدَ الْعِلْمِ، وَإِنْ كَانَ الشُّيُوعُ، وَالِاسْتِفَاضَةُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ أُقِيمَ مُقَامَ الْعِلْمِ وَلَكِنْ لَا أَقَلَّ مِنْ إيرَاثِ شُبْهَةٍ بِعَدَمِ التَّبْلِيغِ، وَالْإِسْمَاعِ بِالْحُرْمَةِ انْتَهَى

غَيْرَ أَنَّ ظَاهِرَ قَوْلِ الْمَبْسُوطِ عَقِبَ هَذَا الْأَثَرِ فَقَدْ جَعَلَ ظَنَّ الْحِلِّ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ شُبْهَةً لِعَدَمِ اشْتِهَارِ الْأَحْكَامِ انْتَهَى يُشِيرُ إلَى أَنَّ هَذَا الظَّنَّ فِي هَذَا الزَّمَانِ لَا يَكُونُ شُبْهَةً مُعْتَبَرَةً لِاشْتِهَارِ الْأَحْكَامِ فِيهِ وَلَكِنَّ هَذَا إنَّمَا يَكُونُ مُفِيدًا لِلْعِلْمِ بِهِ بِالنِّسْبَةِ إلَى النَّاشِئِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، وَالْمُسْلِمُ الْمُهَاجِرُ إلَيْهَا الْمُقِيمُ بِهَا مُدَّةً يَطَّلِعُ فِيهَا عَلَى ذَلِكَ فَأَمَّا الْمُسْلِمُ الْمُهَاجِرُ إلَيْهَا الْوَاقِعُ مِنْهُ ذَلِكَ فِي فَوْرِ دُخُولِهِ فَلَا، وَقَدْ قَالَ الْمُصَنِّفُ فِي الشَّرْحِ وَنُقِلَ فِي اشْتِرَاطِ الْعِلْمِ بِحُرْمَةِ الزِّنَا إجْمَاعُ الْفُقَهَاءِ انْتَهَى، وَهُوَ مُفِيدٌ أَنَّ جَهْلَهُ يَكُونُ عُذْرًا، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ عُذْرًا بَعْدَ الْإِسْلَامِ وَلَا قَبْلَهُ فَمَتَى يَتَحَقَّقُ كَوْنُهُ عُذْرًا، وَأَمَّا نَفْيُ كَوْنِهِ عُذْرًا فِي حَالَةِ الْكُفْرِ لِتَقْصِيرِهِ فِي الطَّلَبِ لِمَعْرِفَةِ هَذَا الْحُكْمِ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ كَمَا تَقَدَّمَ فَمَحِلُّ نَظَرٍ وَحِينَئِذٍ فَالْفَرْعُ الْمَذْكُورُ هُوَ الْمُشْكِلُ فَلْيُتَأَمَّلْ (بِخِلَافِ الذِّمِّيِّ أَسْلَمَ فَشَرِبَ الْخَمْرَ) بَعْدَ إسْلَامِهِ، وَقَالَ: أَعْلَمُ بِحُرْمَتِهَا (يُحَدُّ لِظُهُورِ الْحُكْمِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ) ، وَهُوَ مُقِيمٌ فِيهَا (فَجَهْلُهُ) بِحُرْمَتِهَا مَعَ شُيُوعِهَا فِيهِ (لِتَقْصِيرِهِ) فِي مَعْرِفَتِهِ بِهَا فَلَا يَكُونُ جَهْلُهُ عُذْرًا فِي دَرْءِ الْحَدِّ وَلَا كَذَلِكَ دَارُ الْحَرْبِ، فَإِنَّ حُرْمَتَهَا غَيْرُ شَائِعَةٍ فِيهَا فَكَانَ جَهْلُ الْحَرْبِيِّ بِهَا دَارِئًا لِلْحَدِّ عَنْهُ فِي الْمَسْأَلَةِ السَّابِقَةِ

الْقِسْمُ الثَّالِثُ جَهْلٌ يَصْلُحُ عُذْرًا كَمَنْ أَسْلَمَ فِي دَارِ الْحَرْبِ فَتَرَكَ بِهَا صَلَوَاتٍ جَاهِلًا لُزُومَهَا فِي الْإِسْلَامِ لَا قَضَاءَ) عَلَيْهِ إذَا عَلِمَهُ بَعْدَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُقَصِّرٍ فِي طَلَبِ الدَّلِيلِ، وَإِنَّمَا جَاءَ الْجَهْلُ مِنْ قِبَلِ خَفَاءِ الدَّلِيلِ فِي نَفْسِهِ لِعَدَمِ اشْتِهَارِهِ فِي دَارِ الْحَرْبِ لِانْقِطَاعِ وِلَايَةِ التَّبْلِيغِ عَنْهُمْ فَانْتَفَى سَمَاعُ الْخِطَابِ فِي حَقِّهِ حَقِيقَةً، وَهُوَ ظَاهِرٌ وَتَقْدِيرًا؛ لِأَنَّهُ بِشُهْرَتِهِ فِي مَحِلِّهِ وَدَارُ الْحَرْبِ لَيْسَتْ مَحِلَّهَا فَانْتَفَى قَوْلُ زُفَرَ عَلَيْهِ قَضَاؤُهَا؛ لِأَنَّ بِالْإِسْلَامِ يَصِيرُ مُلْتَزِمًا أَحْكَامَهُ وَلَكِنْ قَصُرَ عَنْهُ خِطَابُ الْأَدَاءِ لِجَهْلِهِ بِهِ وَذَا لَا يُسْقِطُ الْقَضَاءَ بَعْدَ تَقَرُّرِ السَّبَبِ كَالنَّائِمِ إذَا انْتَبَهَ بَعْدَ الْوَقْتِ

(وَكُلُّ خِطَابٍ تُرِكَ وَلَمْ يَنْتَشِرْ فَجَهْلُهُ عُذْرٌ) لِانْتِفَاءِ التَّقْصِيرِ عَنْ جَاهِلِهِ بِخَفَائِهِ عَنْهُ وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا} [المائدة: ٩٣] لِلَّذِينَ شَرِبُوا) الْخَمْرَ (بَعْدَ تَحْرِيمِهَا غَيْرَ عَالِمِينَ) بِحُرْمَتِهَا وَهَذَا بِنَاءً عَلَى مَا فِي التَّيْسِيرِ مِنْ أَنَّ بَعْضَ الصَّحَابَةِ كَانُوا فِي سَفَرٍ فَشَرِبُوا بَعْدَ التَّحْرِيمِ لِعَدَمِ عِلْمِهِمْ بِحُرْمَتِهَا فَنَزَلَ قَوْله تَعَالَى لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا الْآيَةَ وَعَنْ ابْنِ كَيْسَانَ لَمَّا نَزَلَ تَحْرِيمُ الْخَمْرِ، وَالْمَيْسِرِ قَالَ أَبُو بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كَيْفَ بِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ مَاتُوا، وَقَدْ شَرِبُوا الْخَمْرَ وَأَكَلُوا الْمَيْسِرَ وَكَيْفَ بِالْغَائِبِينَ عَنَّا فِي الْبُلْدَانِ لَا يَشْعُرُونَ بِتَحْرِيمِهَا وَهُمْ يَطْعَمُونَهَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [المائدة: ٩٣] أَيْ مِنْ الْأَمْوَاتِ، وَالْأَحْيَاءِ فِي الْبُلْدَانِ {جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا} [المائدة: ٩٣] مِنْ الْخَمْرِ، وَالْقِمَارِ {إِذَا مَا اتَّقَوْا} [المائدة: ٩٣] مَا حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ سِوَاهُمَا

(قُلْت) : لَكِنَّ الَّذِي ذَكَرَهُ الْوَاحِدِيُّ فِي سَبَبِ نُزُولِ الْآيَةِ مَا فِي الصَّحِيحَيْنِ «عَنْ أَنَسٍ كُنْت سَاقِيَ الْقَوْمِ فِي مَنْزِلِ أَبِي طَلْحَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَكَانَ خَمْرُهُمْ يَوْمَئِذٍ الْفَضِيخَ فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُنَادِيًا يُنَادِي أَلَا إنَّ الْخَمْرَ قَدْ حُرِّمَتْ فَقَالَ أَبُو طَلْحَةَ: اُخْرُجْ فَأَهْرِقْهَا فَهَرَقْتهَا فِي سِكَكِ الْمَدِينَةِ فَقَالَ بَعْضُ الْقَوْمِ قَدْ قُتِلَ فُلَانٌ وَفُلَانٌ وَفُلَانٌ وَهِيَ فِي بُطُونِهِمْ فَأَنْزَلَ اللَّهُ {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا} [المائدة: ٩٣] الْآيَةَ»

<<  <  ج: ص:  >  >>