وقوله إِلَّا اتِّباعَ الظَّنِّ الراجح أن الاستثناء فيه منقطع، أى ما لهم به من علم لكنهم يتبعون الظن.
وقيل: هو متصل، لأن العلم والظن يجمعهما مطلق الإدراك.
قال صاحب الكشاف: فإن قلت: قد وصفوا بالشك والشك أن لا يترجح أحد الجائزين.
ثم وصفوا بالظن والظن أن يترجح أحدهما فكيف يكونون شاكين ظانين؟ قلت: أريد أنهم شاكون ما لهم من علم قط، ولكن إن لاحت لهم أمارة ظنوا.
ولم يرتض هذا الجواب صاحب الانتصاف فقال: وليس في هذا الجواب شفاء الغليل.
والظاهر- والله أعلم- أنهم كانوا أغلب أحوالهم الشك في أمره والتردد، فجاءت العبارة الأولى على ما يغلب من حالهم، ثم كانوا لا يخلون من ظن في بعض الأحوال وعنده يقفون لا يرتفعون إلى العلم فيه البتة. وكيف يعلم الشيء على خلاف ما هو به؟ فجاءت العبارة الثانية على حالهم النادرة في الظن نافية عنهم ما يترقى عن الظن «١» .
وقوله: وَما قَتَلُوهُ يَقِيناً، بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً تأكيد لنجاة عيسى مما يزعمونه من قتلهم له، وبيان لما أكرمه الله به من رعاية وتشريف.
واليقين: هو العلم الجازم الذي لا يحتمل الشك والضمير في قوله وَما قَتَلُوهُ لعيسى.
وقوله يَقِيناً ذكر النحاة في إعرابه وجوها من أشهرها: أنه نعت لمصدر محذوف مأخوذ من لفظ قتلوه: أى: ما قتلوه قتلا يقينا، أى متيقنين معه من أن المقتول عيسى عليه السلام- وهذا فيه ترشيح للاختلاف والشك الذي اعتراهم.
أو هو حال مؤكدة لنفى القتل. أى انتفى قتلهم إياه انتفاء يقينا. فاليقين منصب على النفي. أى: أن: نفى كونه قد قتل أمر متيقن مؤكد مجزوم به، وليس ظنا كظنكم أو وهما كوهمكم يا معشر أهل الكتاب.
وقد أشار صاحب الكشاف إلى ذلك بقوله: قوله: وَما قَتَلُوهُ يَقِيناً أى: وما قتلوه قتلا يقينا. أو ما قتلوه متيقنين كما ادعوا ذلك في قولهم إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ أو يجعل يَقِيناً تأكيدا لقوله: وَما قَتَلُوهُ كقولك: ما قتلوه حقا. أى حق انتفاء قتله حقا.
والمعنى: أن اليهود قد زعموا أنهم قتلوا عيسى- عليه السلام- وزعمهم هذا أبعد ما يكون عن الحق والصواب، لأن الحق المتيقن في هذه المسألة أنهم لم يقتلوه، فقد نجاه الله من مكرهم،
(١) تفسير الكشاف وحاشيته ج ١ ص ٨٥٧. [.....]