للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

قال الزجاج: استنكف أى: أنف مأخوذ من نكفت الدمع إذا نحيته بإصبعك عن خدك.

ومنه الحديث «ما ينكف العرق عن جبينه» أى: ما ينقطع.

وقيل: هو من النّكف وهو العيب. يقال: ما عليه في هذا الأمر من نكف ولا وكف. أى عيب. أى لن يمتنع المسيح ولن يتنزه عن العبودية لله- تعالى- ولن ينقطع عنها. ولن يعاب أن يكون عبدا لله تعالى «١» .

والجملة الكريمة مستأنفة لتقرير ما سبقها من تنزيه لله- تعالى- عن أن يكون له ولد، وإثبات لوحدانيته- عز وجل- وإفراده بالعبادة.

وقد روى المفسرون في سبب نزولها أن وفد نجران قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم: لم تعيب صاحبنا يا محمد؟ قال: «ومن صاحبكم؟ قالوا: عيسى، قال صلى الله عليه وسلم: وأى شيء قلت؟ قالوا تقول: إنه عبد الله ورسوله. قال صلى الله عليه وسلم: إنه ليس بعار أن يكون عبدا لله» «٢» .

والمعنى: لن يأنف المسيح ولن يمتنع عن أن يكون عبدا لله، وكذلك الملائكة المقربون لن يأنفوا ولن يمتنعوا عن ذلك، فإن خضوع المخلوقات لخالقها شرف ليس بعده شرف. والله- تعالى- ما خلق الخلق إلا لعبادته وطاعته.

قال- تعالى- وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ. ما أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ.

وصدر- سبحانه- الجملة بحرف (لن) المفيدة للنفي المؤكد، لبيان أن عدم استنكاف المسيح والملائكة المقربين عن عبادة الله والخضوع له أمر مستمر وثابت ثبوتا لا شك فيه، لأنه- سبحانه- هو الذي خلق الخلق ورزقهم. ومن حقه عليهم أن يعبدوه، ويذعنوا لأمره، بل ويشعروا باللذة والأنس والشرف لعبادتهم له- سبحانه- كما قال الشاعر الحكيم:

ومما زادني عجبا وتيها ... وكدت بأخمصي أطأ الثريا

دخولي تحت قولك يا عبادي ... وجعلك خير خلقك لي نبيا

هذا، وقد فهم بعض العلماء من هذه الآية أن الملائكة أفضل من الأنبياء، وممن فهم هذا الفهم الإمام الزمخشري فقد قال:

وقوله: نْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ

أى: لن يأنف ولن يذهب بنفسه عزة، (من نكفت الدمع إذا نحيته عن خدك بإصبعك) لَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ

أى: ولا من هو أعلى منه قدرا،


(١) تفسير القرطبي ج ٦ ص ٢٦- بتصرف يسير-. [.....]
(٢) تفسير الفخر الرازي ج ١١ ص ١١٧.

<<  <  ج: ص:  >  >>