للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وأعظم منه خطرا وهم الملائكة الذين حول العرش كجبريل وميكائيل وإسرافيل ومن في طبقتهم.

ثم قال: فإن قلت: من أين دل قوله لَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ

على أن المعنى: ولا من فوقه؟ قلت: من حيث إن علم المعاني لا يقتضى غير ذلك. وذلك أن الكلام إنما سيق لرد مذهب النصارى وغلوهم في رفع عيسى عن منزلة العبودية. فوجب أن يقال لهم: لن يترفع عيسى عن العبودية ولا من هو أعلى منه درجة. فكأنه قيل: لن يستنكف الملائكة المقربون من العبودية فكيف بالمسيح؟ ويدل عليه دلالة ظاهرة بينة، تخصيص المقربين لكونهم أرفع الملائكة درجة وأعلاهم منزلة «١» .

وهذا الفهم الذي اتجه إليه الزمخشري من أن الملائكة أفضل من الأنبياء، لم يوافقه عليه أكثر العلماء، فقد قال الإمام ابن كثير:

وقد استدل بعض من ذهب إلى تفضيل الملائكة على البشر بهذه الآية حيث قال:

لَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ

. وليس له في ذلك دلالة، لأنه إنما عطف الملائكة على المسيح، لأن الاستنكاف هو الامتناع. والملائكة أقدر على ذلك من المسيح، فلهذا قال لَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ

ولا يلزم من كونهم أقوى وأقدر على الامتناع أن يكونوا أفضل. وقيل إنما ذكروا لأن بعض الناس اتخذهم آلهة مع الله كما اتخذ الضالون المسيح إلها أو ابنا لله. فأخبر- سبحانه- أنهم عبيد من عباده، وخلق من خلقه «٢» .

وقد حاول بعض العلماء أن يجعل الآية الكريمة بعيدة عن موطن النزاع فقال: وعندي أن الترقي قائم، ولكن في المعنى الذي سيق له الكلام. وذلك أن النصارى غلوا غلوا كبيرا في المسيح، لأنه ولد من غير أب، ولأنه جرت على يديه معجزات كثيرة، ولأنه روحانى المعاني، فيبين الله- تعالى- أنه مع كل هذا لن يستنكف أن يكون عبد الله، ولا يستنكف من هو أعلى منه في هذه المعاني أن يكون عبدا لله، وهم الملائكة الذين خلقوا من غير أب ولا أم. وأجرى على أيديهم ما هو أشد وأعظم من معجزات، ومنهم من كان الروح الذي نفخ في مريم، وهم أرواح طاهرة مطهرة. فكان الترقي في هذه المعاني، وهم فيها يفضلون عيسى وغيره. وبذلك تكون الآية بعيدة عن الأفضلية المطلقة، فلا تدل على أفضلية الملائكة على الرسل في المنزلة عند الله. وتكون الآية بعيدة عن موطن الخلاف، والترقي دائما يكون في المعاني التي سيق لها الكلام دون غيرها. وليس المتأخر أعلى في ذاته من المتقدم وأفضل، ولكنه أعلى في الفعل الذي كان فيه كقول القائل: لا تضرب حرا ولا عبدا. فالتدرج هنا في النهى عن الضرب، لأنه إذا كان


(١) تفسير الكشاف ج ١ ص ٥٩٥.
(٢) تفسير ابن كثير ج ١ ص ٥٩١.

<<  <  ج: ص:  >  >>