قوله- تعالى-: أَنْ تُوَلُّوا أى: ليس توليتكم وجوهكم قبل المشرق والمغرب البر كله.
وقرأ الباقون لَيْسَ الْبِرَّ برفع البر على أنه اسم ليس، وخبرها قوله- تعالى-: أَنْ تُوَلُّوا أى ليس البر كله توليتكم وجوهكم قبل المشرق والمغرب.
قال الطبرسي: وكلا المذهبين حسن، لأن كل واحد من اسم ليس وخبرها معرفة، فإذا اجتمعا في التعريف تكافآ في كون أحدهما اسما والآخر خبرا كما تتكافأ النكرتان «١» .
وقوله- تعالى-: وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتابِ وَالنَّبِيِّينَ إلخ بيان لما هو البر الذي يجب أن تتجه إليه الأفكار، وتستجيب له النفوس.
ولكِنَّ حرف استدراك، البر: اسمها. وقوله مَنْ آمَنَ وقع في اللفظ موقع الخبر عن قوله الْبِرَّ والخبر في المعنى لفظ مقدر مضاف إلى من آمن، يفهم من سياق الجملة، والمعنى مع ملاحظة المقدر: ولكن البر بر من آمن بالله.
وهذا اللون من الإيجاز الذي حذف فيه المضاف معهود في كلام البلغاء إذ تجدهم يقولون السخاء حاتم، والشعر زهير. أى: السخاء سخاء حاتم، والشعر شعر زهير.
وقيل: إن البر هنا بمعنى البار فجعل المصدر في موضع اسم الفاعل، كما يقال: ماء غور أى: غائر، ورجل صوم أى: صائم.
وقيل: إن المحذوف هو لفظ مضاف إلى البر. أى: ولكن ذا البر من آمن بالله.
وقد ابتدأت الآية حديثها عن خصال البر بالإيمان بالله، لأنه أساس كل بر. وأصل كل خير، والإيمان بالله: هو التصديق بأنه هو الواحد الفرد الصمد، الذي لا تعنو الوجوه إلا له، ولا تتجه القلوب بالعبادة إلا إليه، ومتى رسخ هذا الإيمان في النفوس ارتفع بها إلى مكانة التكريم التي أرادها الله- تعالى- لبنى آدم وصانها عن الذلة والاستكانة وأعطاها نبراس الهداية والسداد في كل نواحي الحياة.
ثم ذكرت الإيمان باليوم الآخر، وهو التصديق بالبعث وما يقع بعده من حساب وثواب وعقاب على الوجه الذي وصفته نصوص الشريعة بأجلى بيان.
والإيمان باليوم الآخر من ثماره أنه يغرس في النفوس محبة الخير، والحرص على إسداء المعروف وينفرها من اقتراف الشرور وارتكاب الآثام.
ولقد تحدث القرآن عن الإيمان بالله واليوم الآخر في عشرات الآيات، وأقام الأدلة الساطعة، والبراهين القاطعة على وحدانية الله وعلى أنه هو صاحب الكمال المطلق، كما أقام
(١) تفسير الطبرسي ج ٢ ص ٩٢ طبعة مكتبة الحياة ببيروت سنة ١٩٨٠.