عطف كل واحد منهما إلى الآخر، فيقع بينهم العفو، والاتباع بالمعروف، والأداء بإحسان.
قال صاحب الكشاف: فإن قلت: عفى يتعدى بعن لا باللام فما وجه قوله فَمَنْ عُفِيَ لَهُ؟ قلت: يتعدى بعن إلى الجاني وإلى الذنب فيقال: عفوت عن فلان وعن ذنبه. قال- تعالى-: عَفَا اللَّهُ عَنْكَ وقال: عَفَا اللَّهُ عَنْها. فإذا تعدى إلى الذنب والجاني معا قيل: عفوت لفلان عما جنى، كما تقول: غفرت له ذنبه وتجاوزت له عنه. وعلى هذا ما في الآية، كأنه قيل: فمن عفى عن جنايته فاستغنى عن ذكر الجناية «١» .
وجاء التعبير بلفظ شيء منكرا لإفادة التقليل. أى: فمن عفى له من أخيه ما يسمى شيئا من العفو والتجاوز ولو أقل قليل، تم العفو وسقط القصاص، ولم تجب إلا الدية، وذلك بأن يعفو بعض أولياء الدم، لأن القصاص لا يتجزأ.
وفي ذلك تحبيب من الشارع الحكيم لولى الدم، في العفو وفي قبول الدية، إذ العفو أقرب إلى صفاء القلوب، وتجميع النفوس على الإخاء والتعاطف والتسامح. وفيه- أيضا- إبطال لما كان عليه أهل الجاهلية من التعيير من قبول أخذ الصلح في قتل العمد، وعدهم ذلك لونا من بيع دم المقتول بثمن بخس. قال بعضهم يحرض قومه على الثأر.
فلا تأخذوا عقلا من القوم إننى ... أرى العار يبقى والمعاقل تذهب
وقال شاعر آخر يذكر قوما لم يقبلوا الصلح عن قتيل لهم:
فلو أن حيا يقبل المال فدية ... لسقنا لهم سيبا من المال مفعما
ولكن أبى قوم أصيب أخوهم ... رضا العار فاختاروا على اللبن الدما
ثم بين- سبحانه- أنه يريد بعباده اليسر ولا يريد بهم العسر فقال: ذلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ.
أى: ذلك الذي شرعناه لكم من تيسير أمر القصاص بأداء الدية إلى ولى القتيل إذا رضى طائعا مختارا، أردنا منه التخفيف عليكم إذ في الدية تخفيف على القاتل بإبقاء حياته وإنقاذها من القتل قصاصا، وفيها كذلك نفع لولى القتيل، إذ هذا المال الذي أخذه نظير عفوه يستطيع أن ينتفع به في كثير من مطالب حياته.
وبهذا نرى أن الإسلام قد جمع في تشريعه الحكيم لعقوبة القتل بين العدل والرحمة. إذ جعل القصاص حقا لأولياء المقتول إذا طالبوا به لا ينازعهم في ذلك منازع وهذا عين الإنصاف والعدل.
(١) تفسير الكشاف ج ١ ص ٢٢٢.