للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وجعل الدية عوضا عن القصاص إذا رضوا بها باختيارهم، وهذا عين الرحمة واليسر.

وبالعدالة والرحمة تسعد الأمم وتطمئن في حياتها إذ العدالة هي التي تكسر شره النفوس، وتغسل غل الصدور، وتردع الجاني عن التمادي في الاعتداء، لأنه يعلم علم اليقين أن من وراء الاعتداء قصاصا عادلا.

والرحمة هي التي تفتح الطريق أمام القلوب لكي تلتئم بعد التصدع وتتلاقى بعد التفرق، وتتوادد بعد التعادي، وتتسامى عن الانتقام إلى ما هو أعلى منه وهو العفو. فلله هذا التشريع الحكيم الذي ما أحوج العالم إلى الأخذ به، والتمسك بتوجيهاته.

ثم ختم- سبحانه- الآية بالوعيد الشديد لمن يتعدى حدوده، ويتجاوز تشريعه الحكيم فقال: فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ.

أى: فمن تجاوز حدوده بعد هذا التشريع الحكيم الذي شرعناه بأن قتل القاتل بعد قبول الدية منه، أو بأن قتل غير من يستحق القتل فله عذاب شديد الألم من الله- تعالى- لأن الاعتداء بعد التراضي والقبول يدل على نكث العهد، ورقة الدين، وانحطاط الخلق.

ثم بين- سبحانه- الحكمة في مشروعية القصاص توطينا للنفوس على الانقياد له، وتقوية لعزم الحكام على إقامته فقال- تعالى-: وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ أى: ولكم في مشروعية القصاص حياة عظيمة، فالتنوين للتعظيم.

قال صاحب الكشاف، وذلك أنهم كانوا يقتلون الجماعة بالواحد، وكم قتل مهلهل بأخيه كليب حتى كاد يفنى قبيلة بكر بن وائل. وكان يقتل بالمقتول غير قاتله فتثور الفتنة ويقع بينهم التناحر فلما جاء الإسلام بشرع القصاص كانت فيه حياة أى حياة، أو نوع من الحياة وهي الحياة الحاصلة بالارتداع عن القتل لوقوع العلم بالاقتصاص من القاتل، لأنه إذا هم بالقتل فعلم أنه يقتص منه ارتدع فسلّم صاحبه من القتل وسلّم هو من القود فكان القصاص سبب حياة نفسين «١» .

هذا وقد نقل عن العرب ما يدل على أنهم تحدثوا عن حكمة القصاص ومن أقوالهم في هذا الشأن: «قتل البعض إحياء للجميع، وأكثروا القتل ليقل القتل» وأجمعوا على أن أبلغ الأقوال التي عبروا بها عن هذا المعنى قولهم «القتل أنفى للقتل» وقد أجمع أولو العلم على أن قوله- تعالى-: وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ أبلغ من هذه العبارة التي نطق بها حكماء العرب، بمقدار ما بين كلام الخالق وكلام المخلوق، وذكروا أن الآية تفوق ما نطق به حكماء العرب من وجوه كثيرة من أهمها:


(١) تفسير الكشاف ج ١ ص ٢٢٣.

<<  <  ج: ص:  >  >>