قال: وسمعت الوزير بن يونس - ومجلسه حفل بالعلماء - يثنى على صدقة، وينكر على ابن الجوزى قدحه فيه، بقوله: صليت إلى جانب صدقة، فما سمعته يقرأ. وقال: الواجب أن يسمع نفسه، لا من إلى جانبه، وأين حضور قلب ابن الجوزى من سماع قراءة غيره؟ ثم من جعل همته إلى تتبع شخص، إلى هذا الحد فى الصلاة، دل بفعله على عداوته، والله يغفر لهما.
قلت: هذا من أسهل ما أنكره ابن الجوزى عليه، ثم إنه قال: كنت أتأمله إذا قام إلى الصلاة، فأكون فى أوقات إلى جانبه، فلا أرى شفتيه تتحرك أصلا، لم يقل: لم أسمعه يقرأ.
وأما الفتيا التى عرفه الوزير بسببها، فقد ذكرها ياقوت الحموى فى كتابه قال: جرى بين الوزير أبى الفرج ابن رئيس الرؤساء وزير المستضئ مسألة فى العلم: هل هو واحد، أم أكثر. وكان عنده جماعة من أهل العلم، كابن الجوزى وغيره، فسألهم عن ذلك؟ فكل كتب بخطه: إن العلم واحد، فلما فرغوا، قال: ترى ههنا من هو قيم بهذا العلم غير هؤلاء؟ فقال له بعض الحاضرين: ههنا رجل يعرف بصدقة الناسخ، يعرف هذا الفن معرفة لا مزيد عليها، فنفذ بالفتوى، وفيها خطوط الفقهاء، وقال: انظر فى هذه، وقل ما عندك، فلما وقف عليها فكر طويلا، متعجبا من اتفاقهم على ما لا أصل له، ثم أخذ القلم، وكتب: العلم علمان: علم غريزى، وعلم مكتسب.
فأما الغريزى: فهو الذى يدرك على الفور، من غير فكرة، كقولنا:
واحد وواحد، فهذا يعلم ضرورة أنه اثنان.
وعلم مكتسب: وهو ما يدرك بالطلب، والفكرة والبحث، أو كلاما هذا معناه، وأنفذ الخط إلى الوزير. فلما وقف عليه، أعجب به، وقال: أين يكون هذا الرجل؟ فعرف حاله وفقره، فاستدعاه إليه، وتلقاه بالبشر، وخلع عليه خلعة حسنة، وأعطاه أربعين دينارا، ففرح فرحا عظيما، وقال: يا مولاى، قد