[أهمية صحيح مسلم]
أما أهمية صحيح الجامع، فقد قال الإمام النووي رحمه الله: ومن حقق نظره في صحيح مسلم رحمه الله، واطلع على ما أودعه في إسناده وترتيبه وحسن سياقه، وبديع طريقه من نفائس التحقيق وجواهر التدقيق، وأنواع الورع والاحتياط والتحري في الروايات وتلخيص الطرق واختصارها، وضبط متفرقها وانتشارها، وكثرة اطلاعه واتساع روايته وغير ذلك مما فيه من المحاسن والأعجوبات، واللطائف الظاهرات والخفيات، علم أنه إمام لا يلحقه من بعد عصره، وقل من يساويه بل يدانيه من أهل دهره، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم.
وقال الحافظ: حصل لـ مسلم في كتابه حظ عظيم مفرط لم يحصل لأحد مثله، حيث إن بعض الناس كان يفضله على صحيح محمد بن إسماعيل البخاري وذلك لما اختص به من جمع الطرق وجودة السياق، والمحافظة على أداء الألفاظ كما هي من غير تقطيع ولا رواية بمعنى، وقد نسج على منواله خلق من نيسابور اليوم فلم يبلغوا شأوه، فسبحان المعطي الوهاب! فهؤلاء الأئمة لم يكونوا أعلم أهل عصرهم، فإن الإمام مسلماً عرض كتابه الصحيح على أبي زرعة الرازي فما أشار إليه بحذفه كان يحذفه، فدل على علو رتبة أبي زرعة.
ولكن هؤلاء الأئمة رزقوا هذا العلم لحسن النية، كما قال الحافظ: سبحان المعطي الوهاب.
وقال ابن كثير رحمه الله في ترجمة الإمام مسلم صاحب الصحيح الذي هو صنو صحيح البخاري عند أكثر العلماء.
وذهبت المغاربة وأبو علي النيسابوري إلى تفضيل صحيح مسلم على صحيح البخاري.
يقول: فإن أرادوا تقديمه عليه في كونه ليس فيه شيء من التعليقات إلا القليل، فإن صحيح مسلم لم ترد فيه إلا ثلاثة من الأحاديث المحذوفة والمعلقة في بداية السند.
أما صحيح البخاري ففيه الكثير بالمئات، وإنما ذلك استعانة يستعين بها وليست على شرطه، أي: ولكن يستأنس ويستعين بها فيما يرجحه من آراء فقهية.
فصحيح الإمام مسلم ليس فيه من التعليقات إلا القليل، وأنه يسوق الأحاديث بتمامها في موضع واحد، ولا يقطعها كتقطيع البخاري لها في الأبواب، فهذا القدر ينازع قوة أسانيد البخاري في الصحيح.
أما صحيح البخاري فيتميز بقوة الأسانيد كما قال بعضهم: أسانيد مثل نجوم السماء أمام متون كمثل الشهب أي: أن الأسانيد قوية جداً، والمتون مثل الشهب في قوتها كما سترى في ترجيح البخاري على مسلم، ولكن الإمام مسلماً جمع الرواة في مكان واحد، وكان عنده حسن ترتيب وتنسيق واختصار كما سنرى.
فهذا القدر لا يوازي قوة أسانيد البخاري واشتراطه في الصحيح لها ما أورده في جامعه من معاصرة الراوي لشيخه وسماعه منه.
فهذا فرق بين البخاري ومسلم، فالإمام البخاري كان يشترط السماع؛ فالشيخ إذا روى عن الشيخ بالعنعنة لا يقبل منه، حتى يثبت أن فلاناً سمع من فلان ولا يكفي فيهما المعاصرة، كأن يكون هذا في قطر وذاك في قطر آخر، فلم تحصل مشافهة، فـ البخاري لابد أن يتأكد من السماع.
أما الإمام مسلم فيحمل المعاصرة على السماع، يعني: يكتفي بالمعاصرة وإن لم يثبت السماع.
قال الذهبي: ليس في صحيح مسلم من العوالي إلا ما قل.
فالإمام الذهبي يعرف كل كتب السنة، فكلامه يكتب بماء الذهب لمن يعرف قيمة هذا الكلام.
ومعنى العوالي: أن يقل عدد الرواة بين المصنف أو بين الراوي وبين النبي صلى الله عليه وسلم، وكلما قل عدد الرواة كان الحديث أبعد من العلل حتى لو كان الرواة كلهم عدولاً ضابطين فإن العدل الضابط قد يهم، لأنه ليس معصوماً من الخطأ.
فنعيب على الإمام مسلم بأن أحاديثه لم تكن من العوالي، وإنما أكثر أسانيده فيها عدد كبير من الرواة بينه وبين النبي صلى الله عليه وسلم، ولذلك فإن كثيراً ممن عاصره استحسن متون الأحاديث، ولكنه اعتبر هذه الأسانيد نازلة فأورد هذه المتون بأسانيد أخرى أكثر علواً، وسيأتي ذكر جماعة من هؤلاء.
فيقول الإمام الذهبي: ليس في صحيح مسلم من العوالي إلا ما قل كـ القعنبي عن أفلح بن حميد.
واسم القعنبي هو: عبد الله بن مسلمة يروي عن الإمام مالك.
ثم حديث حماد بن سلمة، وهمام، ومالك، والليث وليس في الكتاب حديث عالٍ لـ شعبة، ولا للثوري، ولا لـ إسرائيل وهو كتاب نفيس كامل في معناه، ف