[اغترار قارون وإمعانه في الضلالة رغم كل ما قدم إليه من نصح]
قال الله عز وجل: {إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ} [القصص:٧٦].
قيل: الذي نصحه هو موسى.
وقيل: الذي نصحه المؤمنون من أتباع موسى: {إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ} [القصص:٧٦] نصحوه بخمس نصائح: {لا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ * وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} [القصص:٧٦ - ٧٧].
فنصحوه بهذه النصائح الخمس: النصيحة الأولى: قالوا: لا تفرح، أي: فرح بطر وأشر، فرح إعجاب بالنعمة وغرور بها، ولكن من فرح بها لأنها نعمة من عند الله عز وجل واستوجب منه هذا الفرح شكر نعمة الله عز وجل عليه، فهذا الفرح يكون ملازماً لشكر الله عز وجل كما قال عز وجل: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [يونس:٥٨].
فنعمة الله عز وجل إذا اعترف العبد بها وفرح بها واعترف أنها نعمة من عند الله وقام بواجب شكرها، فهذا الفرح محمود، ولكن الفرح الذي ذمه المؤمن على قارون هو فرح البطر الذي يطغي صاحبه، ويغتر صاحبه بنعمة الله عز وجل عليه، ويظن أن له منزلة عند الله عز وجل، أو أنه يستحق التكريم والتشريف، كما أخبر الله عز وجل عن الذين قالوا: {نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ} [سبأ:٣٥]، والذي قاله صاحب الجنتين: {وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنقَلَبًا} [الكهف:٣٦].
مع أنه كفر بالله عز وجل عندما قال: {وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً} [الكهف:٣٦] فهو يكفر بالآخرة، ومع ذلك يعتقد أنه لو كان ثم آخرة لكان له جنة أفضل من جنة الدنيا؛ لأنه اعتاد في الدنيا أن يكون مميزاً وأن يكون مكرماً، وأن يكون أكثر من الناس، فهو يظن أن الآخرة كذلك.
وأن من كان أكثر مالاً وأولاداً وجاهاً وسلطاناً في الدنيا فهو في الآخرة كذلك، وما درى أن الآخرة خافضة رافعة، ترفع أهل الإيمان وتخفض أهل الكفر والنفاق والعصيان، يرتفع في الآخرة أهل التقوى كما قال عز وجل: {وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [البقرة:٢١٢].
ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إنما الدنيا لأربعة نفر: عبد رزقه الله مالاً وعلماً فهو ينفق ماله يتقي فيه ربه ويصل فيه رحمه ويعلم لله فيه حقاً، فهذا بأحسن المنازل عند الله.
ورجل آتاه الله علماً ولم يؤته مالاً، فهو يقول: لو آتاني الله مالاً لعملت فيه بعمل فلان، فهو بنيته وهما في الأجر سواء.
ورجل آتاه الله مالاً ولم يؤته علماً فهو يخبط في ماله لا يتقي فيه ربه، ولا يصل فيه رحمه ولا يعلم لله فيه حقاً فهذا بأسوأ المنازل عند الله، ورجل لم يؤته الله مالاً ولا علماً فهو يقول: لو آتاني الله مالاً لعملت فيه بعمل فلان فهو بنيته وهما في الوزر سواء).
وأكثر الناس ليس عندهم زينة من الدنيا ولا أعراض من أعراض الدنيا، ومع ذلك يتمنون لو أن عندهم مالاً يعصون به الكبير المتعال ويبغون به في الأرض، ويفسدون به في الأرض، وإنما ينفع المال إذا كان لصاحبه علم، فهو بأحسن المنازل عند الله عز وجل: (رجل آتاه الله مالاً وعلماً فهو ينفق ماله يتقي فيه ربه، ويصل فيه رحمه، ويعلم لله فيه حقاً).
كذلك يلحق هذا بالنية من عنده علم وليس عنده مال، فعاد الشرف بجملته على العلم وأهله، والله عز وجل يعطي الدنيا من يحب ومن لا يحب، ولكنه لا يعطي الدين إلا لمن أحبه، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من يرد الله به خيراً يفقه في الدين)، ومفهوم الحديث: من لم يرد الله به خيراً لا يفقهه في الدين وإن كان رئيساً وإن كان وزيراً وإن كان أميراً، فإذا لم يفقه في دين الله عز وجل فمهما أعطي من زينة الدنيا، فإن الله لم يرد به خيراً، قال الله عز وجل: {وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فَضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ * وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ * وَزُخْرُفًا وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ} [الزخرف:٣٣ - ٣٥] أي: لولا أن تكون الفتنة شديدة على أهل الإيمان لجعل الله عز وجل {لِمَنْ يَكْفُرُ