قال:{فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ}[المائدة:٣٠]، (طوعت له) أي: سهلت له، فالعبد إذا وسوس له الشيطان بمعصية يكون في داخله نوازع الخير ونوازع الشر، نوازع الخير تقول له: لا تفعل، وتذكر الآخرة، وتذكر عقاب الله عز وجل، وتذكر الفضيحة على رءوس الأشهاد، وتذكر الفضيحة في الدنيا، ونوازع الشر تدفع به إلى المعصية، والشيطان يخفي عنه عواقب المعصية، وينسيه أن بعد المعصية خسران وبعدها ضنك وشقاء وبعدها عذاب أليم في الآخرة.
تفنى اللذاذة ممن نال لذتها من الحرام ويبقى الإثم والعار تبقى عواقب سوء من مغبتها لا خير في لذة من بعدها النار وقال بعضهم: وكم من معاص نال منهن لذة ومات فخلاها وذاق الدواهيا تصرم لذات المعاصي وتنقضي وتبقى تباعات المعاصي كما هيا فيا سوأتا والله راءٍ وسامع لعبد بعين الله يغشى المعاصي فالشيطان يخفي العواقب، والإنسان عند المعصية لا يتذكر عذاب النار، ولا يتذكر الوقوف بين يدي العزيز الجبار، لذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم:(لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن)، أي: أنه في وقت المعصية يضعف في قلبه الإيمان جداً، وقيل: يخرج بالكلية ويكون فوق رأسه، فإن تاب عاد إليه مرة ثانية، وإن أصر لم يعد إليه مرة ثانية.
فالشيطان يحرص على إخفاء العواقب وتزيين الشهوات، كالعصفور الذي يرى الحبة في الفخ ولا يرى الفخ، فإذا أراد الحبة يكون في ذلك هلاكه، فبعد المعصية تبدأ الحسرات ويبدأ الندم ويتقطع قلب العبد بعد المعصية إن لم يوفق إلى التوبة أو يتقطع عندما تحق الحقائق يوم القيامة، ويرى ثواب الطائعين، وعقاب العاصين.
وقوله:{فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ}[المائدة:٣٠]، ما قال: فطوعت له نفسه قتله فقتله، بل كرر ذكر أخيه؛ لأن قتل الرجل كبيرة من الكبائر، فكيف إذا قتل أخاه الذي يجب عليه أن يصله، فالإفضل أن أخاه هو الذي ينصره، (انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً)، فكيف يقتل من ينصره؟ وكيف يقتل من هو له عضد في الدنيا ومن يقويه في الدنيا فأصبح من الخاسرين، أي: خسر كل شيء، خسر أخاه وخسر دينه؛ لأنه تجرأ على هذه الكبيرة، وما نال شيئاً، وإنما دفعه الحسد إلى هذه الكبيرة، فطوعت له نفسه -أي: سهلت له نفسه، وزينت له- قتل أخيه، ونسي كل العواقب الوخيمة، ونسي عذاب الله عز وجل، ونسي انتقام الله عز وجل:{فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ}[المائدة:٣٠].
وهكذا العبد بعد المعصية يحس بالخسارة ويحس بالندم، ويحس كذلك بالضنك والشقاء في الدنيا قبل الآخرة.