[سبب فلاح العبد وسبب شقائه]
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً.
ثم أما بعد: عباد الله! لما خلقت القلوب لمعرفة علام الغيوب وغفار الذنوب عز وجل صارت سعادتها في طاعة الله عز وجل وفي عبادة الله عز وجل وفي توحيد الله عز وجل، فإذا تعلق القلب بغير الله فالتعاسة والشقاء: (تعس عبد الدرهم، تعس عبد الدينار، تعس عبد الخميصة، تعس عبد القطيفة، تعس وانتكس، وإذا شيك فلا انتقش).
والقلب لو كان فيه غير الله عز وجل يشقى بذلك شقاءً لا يرجى له فلاح، حتى يعرف الله عز وجل، وحتى يتعلق بالله عز وجل تعلق المحب المضطر، فكما خلقت العين للإبصار والأذن للسماع واللسان للتحدث والذوق خلق القلب لمحبة الله عز وجل ومعرفة الله عز وجل، فإذا خلا من حب الله عز وجل وطاعته فهو كالعين العمياء والأذن الصماء واليد الشلاء والجسد الميت، فلا سعادة للعباد إلا في طاعة الله عز وجل وفي تحقيق كمال العبودية لله عز وجل.
يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ما أصاب عبد قط هم ولا غم ولا حزن فقال: اللهم إني عبدك وابن عبدك وابن أمتك، ناصيتي بيدك، ماض في حكمك، عدل في قضاؤك، أسألك بكل اسم هو لك؛ سميت به نفسك أو أنزلته في كتابك أو علمته أحداً من خلقك أو استأثرت به في علم الغيب عندك أن تجعل القرآن العظيم ربيع قلبي، ونور صدري، وجلاء همي وحزني؛ إلا أذهب الله همه وحزنه وأبدله مكانه فرحاً).
لما خلقت القلوب لمعرفة علام الغيوب وتوحيد علام الغيوب وغفار الذنوب عز وجل صار علاج القلوب كذلك في التوحيد، فالقلوب لا تصلح إلا بالتوحيد، فمن أصيب بهم أو غم أو حزن والهم: ما يصيب القلب عند انتظار مكروه في المستقبل، والغم: ما يصيب القلب عند المصيبة الحاضرة، والحزن: هو الأثر الباقي في القلب نتيجة لمصيبة سالفة.
والقلوب تصاب بضعف التوحيد، وإلا فلو كانت دائماً مقبلة على الله عز وجل موحدة لله عز وجل فلن تجد شيئاً من ذلك، بل تجد السعادة باستمرار وتجد حلاوة الأنس بالله عز وجل، ونحن في أنفسنا شاهد على ذلك، فليس منا أحد فعل الطاعة ولم يفعل المعصية، وليس منا أحد لم يذق طعم الطاعة، فنحن جميعاً جررنا الطاعة والمعصية، فكم أطعت الله عز وجل فوجدت أنساً في قلبك وحلاوة في قلبك، وإقبالاً على الله عز وجل وفرحاً بالله عز وجل! وكم خذلت ووقعت في المعصية أو الغفلة فوجدت الوحشة والضنك والشقاء! فالقلوب أسعد ما تكون إذا أقبلت على الله عز وجل، فالقلوب لا تصل إلى مناها حتى تصل إلى مولاها، ولا تصل إلى مولاها حتى تكون صحيحة سليمة.
ونكتة المسألة: إذا سلم القلب قربه الله عز وجل وأدناه، فيسعد بالله عز وجل، ويأنس بالله عز وجل، ويستغني بالله عز وجل، وإذا فعل العبد المعصية طرده الله عز وجل عن حضرته وأبعده بقدر جريمته، فيجد الوحشة بينه وبين الله عز وجل وبينه وبين عباد الله المؤمنين.
فسعادة القلوب في قربها من الله عز وجل، وفي إقبالها على الله عز وجل، فإذا أصيب القلب بشيء من الهم أو الغم أو الحزن فعلاجه أن يعود إلى التوحيد، وأن يجدد توحيده للرب العزيز الحميد المجيد، وأن يقف العبد ذليلاً على ذات ربه العزيز عز وجل، ويقول: اللهم إني عبدك وابن عبدك وابن أمتك.
فهو ليس عبد ابن سيد، ولكنه عبد وابن عبد وابن أمة، فالعبودية متأصلة فيه.
وقوله: (ناصيتي بيدك) فيه إقرار منه بتمام الخضوع لربوبية الله عز وجل، فمن كمال ربوبية الله عز وجل أن الله تعالى أذل جميع الخلق وقهر جميع الخلق مؤمنهم وكافرهم، كما قال عز وجل: {مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [هود:٥٦] يعز من يشاء ويذل من يشاء بيده الخير، يملك نواصي العباد ويملك قلوب العباد، يصرف قلوب العباد كيف يشاء، ويهدي من يشاء ويضل من يشاء، قال تعالى: {وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا} [السجدة:١٣] فالله عز وجل لو شاء أن يهدي كل الخلق لهداهم بكلمة واحدة، ولكن كيف تكون الدعوة إلى الله عز وجل؟ وكيف يوجد الدعاة إلى الله عز وجل؟ فالله عز وجل قادر على هداية جميع الخلق دون خطب ودون دروس ودون كتب وأشرطة، ولكن الله عز وجل يريد أن يبذل الدعاة إلى الله عز وجل، كما أن الله عز وجل قادر على أن يهلك روسيا وأمريكا وسائر الملل الكافرة، وأن يدمر اليهود تدميراً بصيحة واحدة من جبرائيل تهلكهم عن آخرهم، ولكن كيف يكون البذل؟ وكيف تكون التضحية؟ وكيف تظهر آيات الجهاد والبذل لإعلان دين الله عز وجل؟ وكيف يتخذ الله عز وجل من يشاء من الشهداء؟.
فالله عز وجل هو رب الناس، أي: يربيهم ويملك أمورهم، وهو الذي قهرهم ودبرهم كيف أراد: {مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْت