[اختلاف أحوال حياة البرزخ عن حياة الدنيا]
إن الحمد نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً.
ثم أما بعد.
فقد يقول قائل: إننا نكشف القبور فلا نرى نيراناً تؤجج ولا نرى حيات سود أو دهم، ولا نرى القبر يضيق على صاحبه، ولا يملأ عليه خضراً، ولا يتسع عليه قبره بل القبر كما هو، والجواب -عباد الله-: إن الله جعل الدور ثلاثة: دار الدنيا، ودار البرزخ، ودار الآخرة، وجعل الله عز وجل لكل دار أحكاماً تختص بها.
وأول ما تختص به دار البرزخ أن ملائكة الله عز وجل تنزل على العبد عند موته ولا يشهدهم الحاضرون، كما قال الله عز وجل: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لا تُبْصِرُونَ} [الواقعة:٨٥] فإن كان مؤمناً أتاه ملائكة بيض الوجوه كأن وجوههم الشمس، ويجلسون منه مد البصر ويقولون: أيتها الروح الطيبة! اخرجي إلى رضاً من الله ورضوان، وإن كان كافراً أتته ملائكة العذاب وتجلس ومعها المسوح، وتأمر روحه بالخروج، ومع ذلك فالحاضرون لا يشهدون ذلك ولا يسمعون شيئاً من ذلك، والميت يشاهد ذلك ويسمع شيئاً من ذلك، كما ورد عن بعض السلف أنه كان يقول: مرحباً بهذه الوجوه، ومد أحدهم يده وقال: أهلاً صاحبي أهلاً حبيبي، وقال بعضهم: هذا يوم أسود، عندما رأى السواد أمام عينيه مد البصر.
والميت -عباد الله- الذي يموت على الإيمان وعلى طاعة الرحمن تبدو عليه السكينة وكأنه نائم، والذي يموت على غضب الله عز وجل وعلى معصيته ويُحال بينه وبين كلمة التوحيد تبدو عليه علامات الفزع والجزع والخوف، وقد يسود وجهه ويصير مثل القرص المحترق.
وهذه العلامات تظهر -عباد الله- عند خروج الروح وعند الغسل وعند الدفن وبعد الدفن.
والحاصل: أن كل ما هو من أمر الآخرة فقد غيّبه الله عز وجل عن حسّ المكلّفين حتى يتميز المؤمن من الكافر، فالملائكة تخاطب الروح، والعباد في الدنيا لا يرون ذلك ولا يسمعون، ثم تخرج روح المؤمن ولها رائحة أطيب من رائحة المسك، ولها شعاع أضوأ من شعاع الشمس، والحاضرون لا يشهدون ذلك ولا يشمونه، ثم تأتي الروح فتشاهد تغسيل البدن، ثم تسير روح المؤمن فوق الجنازة وتقول: قدّموني قدّموني، والحاضرون لا يسمعون ذلك ولا يشاهدونه، ثم لا يمنع التراب من أن الروح تتصل بالجسد اتصالاً يعلمه الله عز وجل حتى يُسأل العبد في قبره.
فكل ما كان من أمور الآخرة فقد غيّبه الله عز وجل عن حسّ المكلّفين، والمسيح الدجال يأتي قبل القيامة بماء ونار، فماؤه نار تلظى، وناره ماء بارد، وقدرة الله عز وجل عجيبة، ولكن الناس يكذّبون.
والعبد المؤمن إذا قبر يصير قبره روضة من رياض الجنة، ولو قُبر بجواره رجل كافر أو فاجر يكون قبره حفرة من حفر النار، وليس عند الأول خبر عن الثاني ولا عند الثاني خبر عن الأول.
والإنسان قد يرى في النوم أنه في جنة الله عز وجل أو يرى أنه في حج أو عمرة، أو يزور أحبابه أو ما فيه فرح النفوس وبجواره شخص نائم يرى عكس ذلك، فقد يرى أنه يُعذّب أو يرى أنه في مصيبة من المصائب وليس عند أحدهما خبر عن الآخر.
فالله عز وجل جعل الدور ثلاثة، وجعل لكل دار أحكاماً تختص بها، وحجب ما كان من أمور الآخرة عن حس المكلّفين، ولذلك يُعذّب أصحاب القبور عذاباً تسمعه البهائم، وفي بعض القرى إذا أُصيبت البهائم بالإمساك يذهبون بها إلى القبور فتخرج ما في بطونها لما تسمع من الهلع ومن الصراخ ومن الفزع، فهذا عذاب تُحس به البهائم وتسمعه؛ لأنها غير مكلفة، أما الإنس والجن فقد حجب الله عز وجل ذلك عن حسهم.