[التجارة في الدنيا إذا لم تكن مع الله فهي مع سواه]
وكل أحد -عباد الله- في الدنيا يتاجر، والتجارة إما أن تكون مع الله عز وجل، وربح هذه التجارة سعادة الدنيا والآخرة، والحياة الطيبة في الدنيا، والسعادة الأبدية السرمدية في جنة الله عز وجل، وإما أن تكون تجارة مع الشيطان الرجيم، وربحها الضنك والهم والغم والحزن والشقاء في الدنيا، والعذاب الأليم في الآخرة والذي يتاجر به الناس النفوس والأموال والأوقات والأولاد، فما يملكه العبد في الدنيا إنما يتاجر به في الدنيا.
قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (الدنيا سوق)، وقال: (كل الناس يغدو، فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها).
فقوله: (كل الناس يغدو فبائع نفسه) أي: لله عز وجل، (فمعتقها) أي: من النار، (أو موبقها) أي: يبيعها للشيطان، فيخسر نفسه في الدنيا والآخرة.
أخي إنما الدنيا كسوق تزينت أقيم لنا وانفض أمر الفوانيا وكل امرئ لا بد يدخل سوقها سواء بهذا كارهاً أم راضيا ولا بد من بيع ولا بد من شرا ولا بد يمشي رائحاً أو غاديا وسلعته الكبرى التي سيبيعها هي النفس لكن من يكون الشاريا؟ فإن باعاها لله أعتقها إذن وكان له من جمرة النار واقيا وجنة ربي كانت الثمن الذي سيقبضه الإنسان فرحان راضيا وقد ربح البيع الذي تم أخذه ودل الإله المشتري دلّ ربّيا فالمؤمنون -عباد الله- يتاجرون بأوقاتهم وأنفاسهم وأموالهم مع الله عز وجل، فيربحون سعادة الدنيا والآخرة، والمعرضون والكافرون والفاسقون يتاجرون مع الشيطان، فلا يحصلون إلا على الصفقة الخاسرة، وهي الشقاء والنكد والهم والغم والحزن في الدنيا، ثم الشقاء الأبدي السرمدي في عذاب الله عز وجل يوم القيامة.
قال بعض السلف: رأيت العبد ملقى بين الله عز وجل وبين الشيطان، فإن تولاه الله عز وجل لم يقدر عليه الشيطان، وإذا خذله الله عز وجل أخذه الشيطان.
فمن تولى ربه بالطاعة والعبادة والإخلاص والإنابة تولاه الله عز وجل بالحفظ والكلاءة والنصر وقبول الدعوة، ومن خذل دين الله عز وجل فإن الله عز وجل يخذله، فيتولاه عند ذلك الشيطان، ويصير فريسة له.
فينبغي للعبد أن يسأل نفسه: هل هو مع الله عز وجل أو مع الشيطان؟ فليس هناك طرف ثالث يساوم على نفس العبد وماله، فإما أن تكون مع الله عز وجل أو مع الشيطان.
والتجارة مع الله عز وجل نوع خاص من التجارات وليست كسائر التجارات، فالمعاملة مع الله عز وجل معاملة بين العبد الضعيف المخلوق الفقير وبين الرب الغني القادر القاهر.
أما معاملات الخلق فهي معاملة بين فقير وفقير، وبين محتاج ومحتاج، وبين ضعيف وضعيف.
والله عز وجل يريد من العباد أن يعاملوه حتى يربحوا على الله عز وجل أعظم الربح، وهو عز وجل غني عنهم وعن عباداتهم، كما قال الله عز وجل: {لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ} [الحج:٣٧].
فالناس يذبحون وينحرون الهدي والأضاحي، وهم الذين يأكلون اللحوم، والله عز وجل لا يدخر شيئاً من اللحوم ولا من الدماء، ولكنه يريد من العباد أن يستجيبوا لله عز وجل، حتى يسعدوا في الدنيا والآخرة، وحتى يربحوا على الله عز وجل أعظم الربح.
فلو أن العباد كلهم على أتقى قلب رجل واحد منهم -وهو قلب نبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم- ما زاد ذلك في ملك الله عز وجل شيئاً، ولو أنهم كلهم على أفجر قلب رجل واحد منهم ما نقص ذلك من ملك الله عز وجل شيئاً، كما في الحديث القدسي: (يا عبادي! إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني).
فالله عز وجل لا يستفيد شيئاً من طاعة العباد، بل هم أنفسهم يستفيدون من الطاعة في الدنيا والآخرة، ولا يتضرر الله عز وجل بشيء من معاصي العباد، بل هم أنفسهم يتضررون من معاصيهم في الدنيا والآخرة، فالله عز وجل يريدك لك، من أجل أن تستفيد وتنتفع أنت.
وأما تجارات الخلق فكل من أن يعاملك إنما يريد أن يستفيد منك، وأن ينتفع منك منفعة، فهو إنما يريدك لنفسه، والله عز وجل يريدك لك.
فالتجارة مع الله عز وجل نوع خاص من التجارات.