شرح قوله في الحديث (وأسألك نعيماً لا ينفد وقرة عين لا تنقطع)
وقوله: (وأسألك نعيماً لا ينفد وقرة عين لا تنقطع)، والنعيم الذي لا ينفد قيل: هو نعيم الجنة، كما قال تعالى: {مَا عِنْدَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ} [النحل:٩٦].
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (يد الله ملأى لا تغيضها نفقة، أرأيتم ما أنفق منذ خلق السماوات والأرض؟ فإنه لم يغض ما في يمينه)، فما عند الله عز وجل لا ينقص بالعطاء، لو أعطى الله عز وجل للأولين والآخرين جميع ما يؤملونه ويطلبونه منه عز وجل فإنه لا ينقص مما عنده إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر، فما عند الله عز وجل باق، وفاكهة الجنة، {لا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ} [الواقعة:٣٣]، أي: إنها إذا أخذ العبد منها شيئاً خرج مكانها مثلها، فهي لا مقطوعة ولا ممنوعة، ولا تختفي في فصل وتظهر في آخر، بل هي على الدوام موجودة في جنة الله عز وجل، فقيل: هذا هو النعيم الذين لا ينفد، ولما أنشد لبيد بن ربيعة العامري قوله: ألا كل شيء ما خلا الله باطل قال له عثمان بن مظعون: صدقت.
فقال: وكل نعيم لا محالة زائل قال: كذبت؛ فإن نعيم الجنة لا يزول.
(وأسألك نعيماً لا ينفد)، قيل: النعيم الذي لا ينفد هو نعيم القلب بالله عز وجل وبطاعته عز وجل.
قال مالك بن دينار: ما تلذذ المتلذذون بمثل ذكر الله عز وجل.
فالنعيم بطاعة الله عز وجل لا ينفد؛ لأن الطاعة ينشرح بها الصدر، ويفرح بها القلب، ويأنس بها العبد بالرب عز وجل، بخلاف الشهوات الدنيوية المحرمة، فإنها كطعام لذيذ مسموم من أكله تمتع به لحظات، ثم تكون عاقبته إما الموت وإما العطب وإما المرض، أما النعيم بطاعة الله عز وجل فهو النعيم الذي لا ينفد.
قال بعضهم: لو يعلم الملوك وأبناء الملوك ما نحن فيه من نعمة لجالدونا عليها بالسيوف.
وقال بعضهم: والله إنه لتمر بي أوقات أقول: إن كان أهل الجنة كما نحن فيه والله إنهم لفي عيش طيب.
وقال شيخ الإسلام: ما يصنع بي أعدائي وأنا جنتي وبستاني في صدري؟! إن سجني خلوة، وقتلي شهادة، وإخراجي من بلدي سياحة، وتعذيبي جهاد في سبيل الله.
وكان يقول: إن في الدنيا جنة من لم يدخلها لم يدخل جنة الآخرة.
فقيل: هذا هو النعيم الذي لا ينفد؛ لأنه نعيم متصل، يتصل فيه نعيم الدنيا بنعيم الآخرة، فللمؤمنين حياة طيبة في الدنيا ينقلبون منها إلى سعادة أبدية سرمدية في جنة الله عز وجل، كما قال تعالى: {إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ} [الانفطار:١٣ - ١٤]، فهم في سعادة بطاعته عز وجل في الدنيا، ثم ينقلبون بعد ذلك إلى قبورهم وهي روضة من رياض الجنة، ثم إلى النعيم الأكبر في الآخرة.
وأما الفجار فهم في ضنك المعاصي، وفي الهم والغم والحزن وضيق الصدر، ثم ينتقلون من ذلك إلى ضيق اللحود، وإلى حفرة من حفر النار، ثم يحشرون بعد ذلك في العذاب الأكبر والعياذ بالله.
وقوله: (وقرة عين لا تنقطع) وهي قرة العين بالله عز وجل وبطاعته عز وجل، فمن قرت عينه بالله عز وجل قرت به كل عين، ومن لم تقر عينه بالله عز وجل تقطعت نفسه على الدنيا حسرات، فقرة العين بالله عز وجل هي قرة العين بطاعته عز وجل وهي قرة العين التي لا تنقطع، وهي السعادة التي لا منتهى لها، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (حبب إلي من دنياكم ثلاث: النساء والطيب، وجعلت قرة عيني في الصلاة)، أي: من أمور الدنيا الدنية حبب إليه النساء والطيب، وما كانت قرة عين النبي صلى الله عليه وسلم -أي: منتهى راحته وسعادته- في شيء من الدنيا، بل كانت في أم العبادات وفي سيدة الطاعات، (وجعلت قرة عيني في الصلاة) وكان إذا حزبه أمر هرع إلى الصلاة، عملاً بقول الله عز وجل: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ} [البقرة:٤٥]، وكان يقول: (أرحنا بها يا بلال!)، وكان يصلي حتى تتورم ساقاه، وتتفطر قدماه، فيقال له: (أتفعل ذلك وقد غفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟! فيقول: أفلا أكون عبداً شكوراً)، فقد كان سيد الشاكرين والصابرين.
وكان يواصل وينهى عن الوصال، أي: يصوم اليومين والثلاثة أو أكثر دون إفطار.
وكان للصحابة همة عالية في طاعة الله عز وجل، فقد كانوا يتابعون رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك، وكان ينهاهم النبي صلى الله عليه وسلم عن الوصال نهي شفقة عليهم، فيقولون: (إنك تواصل، فيقول: إني لست كهيئتكم، إني أبيت لي مطعم يطعمني وساق يسقيني).
لها أحاديث من ذكراك تشغلها عن الطعام وتلهيها عن الزاد فحبه لله عز وجل وشغله به عز وجل يغنيه عن كثير من الطعام والشراب، وكلما ازداد إيمان العبد وحبه لله عز وجل فإنه يستغني عن الأسباب الأرضية، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (المؤمن يأكل في معيّ واحد، والكافر يأكل في سبعة أمعاء)، فالمؤمن يكفيه القليل من الطعام،