للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[ذكر إرسال الرسل إلى أصحاب القرية وموقفهم منهم]

نشرع في شرح الآيات الكريمات من سورة يس، يقول تعالى: {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ} [يس:١٣]، قال الشوكاني: واضرب لأجلهم مثلاً، أو اضرب لأجل نفسك أصحاب القرية مثلاً، أي: مثلهم عند نفسك بأصحاب القرية، فعلى الأول لما قال تعالى: {إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ} [يس:٣]، وقال: {لِتُنذِرَ قَوْمًا} [القصص:٤٦] قال: قل لهم: ما أنا بدعاً من الرسل، فإن قبلي بقليل جاء أصحاب القرية مرسلون، وأنذروهم بما أنذرتكم، وذكروا التوحيد وخوفوا بالقيامة وبشروا بنعيم دار الإقامة، وعلى الثاني لما قال: إن الإنذار لا ينفع من أضله الله وكتب عليه أنه لا يؤمن، قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: اضرب لنفسك ولقومك مثلاً.

أي: مثل لهم عند نفسك مثلاً بأصحاب القرية، حيث جاءهم ثلاثة رسل ولم يؤمنوا، وصبر الرسل على الإيذاء، وأنت جئت إليهم واحداً وقومك أكثر من قوم الثلاثة، فإنهم جاءوا إلى أهل القرية، وأنت بعثتك إلى الناس كافة، والمعنى: واضرب لهم مثلاً مثل أصحاب القرية، أي: اذكر لهم قصة عجيبة قصة أصحاب القرية، فترك المثل وأقيم أصحاب القرية مقامه في الإعراب.

قال القرطبي: هذه القرية هي أنطاكية في قول جميع المفسرين، وسوف يأتي ما في هذا القول إن شاء الله تعالى.

قوله: ((إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ) قيل: هم رسل من الله على الابتداء، وقد كان في الأمم السابقة يوجد فيهم أكثر من رسول في وقت واحد ولأكثر من مكان، فلا يستبعد أن يكون هؤلاء الرسل من الله.

والقول الثاني: أن عيسى عليه السلام هو الذي أرسلهم، فهم دعاة إلى لله عز وجل أرسلهم عيسى إلى هذه القرية.

قوله تعالى: {إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ} [يس:١٤]، قال ابن كثير رحمه الله: وقوله تعالى: ((إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا)) أي: بادروهما بالتكذيب، ((فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ)) أي: قويناهما وشددنا أزرهما برسول ثالث، ((فَقَالُوا) أي: لأهل تلك القرية ((إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ)) أي: من ربكم الذي خلقكم يأمركم بعبادته وحده لا شريك له قاله أبو العالية.

وزعم قتادة أنهم كانوا رسل المسيح عليه السلام إلى أهل أنطاكية.

{قَالُوا مَا أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا} [يس:١٥] أي: فكيف أوحي إليكم وأنتم بشر ونحن بشر، فلم لم يوح إلينا مثلكم؟ ولو كنتم رسلاً لكنتم ملائكة، وهذه شبهة كثير من الأمم المكذبة، كما أخبر الله عز وجل في قوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا} [التغابن:٦] أي: استعجبوا من ذلك وأنكروه، فهم يظنون أن الله عز وجل إذا أراد أن يرسل إليهم، يرسل إليهم ملائكة لا يرسل إليهم البشر.

وقوله تعالى: {قَالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ} [إبراهيم:١٠]، وقوله تعالى حكاية عنهم: {وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَرًا مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ} [المؤمنون:٣٤]، وقال تعالى: {وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلَّا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا} [الإسراء:٩٤]، فالناس تتعجب لماذا يرسل بشراً؟ لماذا لا يرسل ملائكة؟ قوله تعالى: {قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ * وَمَا عَلَيْنَا إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ} [يس:١٦ - ١٧].

قال الزمخشري: وقول: ((رَبُّنَا يَعْلَمُ)) جار مجرى القسم في التوكيد، وكذلك قوله: (شهد الله)، و (علم الله)، وإنما حسن منهم هذا الجواب الوارد على طريق التوكيد والتحقيق، مع قولهم: {وَمَا عَلَيْنَا إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ} أي: الظاهر المكشوف للآيات الشاهدة على صحته، وإلا فلو قال المدعي: والله إني لصادق فيما أدعي ولم يحضر البينة كان قبيحاً.

{قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ} [يس:١٨]، (تطيرنا) يعني: تشاءمنا، يقول: وذلك أنهم كرهوا دينهم ونفرت منه نفوسهم، وعادة الجهال أن يتيمنوا بكل شيء مالوا إليه واشتهوه وآثروه وقبلته طباعهم، ويتشاءموا بما نفروا عنه وكرهوه، فإن أصابهم نعمة أو بلاء قالوا: ببركة هذا وبشؤم هذا، كما حكى الله عن القبط: {وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ} [الأعراف:١٣١]، يعني: كلما تأتيهم مصيبة يقولون: هذا بشؤمه