[الغاية من تزكية النفس]
التزكية درجات، والعبد يزكي نفسه حتى يصير أفضل من ملائكة الله عز وجل، وحتى يدخل جنة الله عز وجل، فإذا دخل جنة الله عز وجل دخلت عليه الملائكة من كل باب: {سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ} [الرعد:٢٤]، فالنفس فيها استعداد للتزكية -أي: للتعلية- وفيها استعداد كذلك للتدسية، قال الله عز وجل: {وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر:١ - ٣].
وقال عز وجل: {وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ * وَطُورِ سِينِينَ * وَهَذَا الْبَلَدِ الأَمِينِ * لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ * ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ} [التين:١ - ٦].
فدواب الأرض أحسن حالاً من الكفار الذين لا يعبدون الله عز وجل ولا يعرفون الله عز وجل، كما قال عز وجل: {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا} [الأنفال:٥٥]، فهؤلاء شر من يدب على الأرض، فهم أشر وأخبث وأقل درجة من الحشرات التي تدب على الأرض، والكلب والخنزير أفضل منهم؛ لأنهم بنص الآية شر من يدب على الأرض، قال سبحانه: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ} [الأعراف:١٧٩]، فالله عز وجل ذكر أنهم كالأنعام، ثم نزل بدرجتهم عن الأنعام فقال: ((بَلْ هُمْ أَضَلُّ))، فانظروا إلى طبيعة النفس البشرية وكيف استعدادها للترقية والتزكية والتعلية، وكيف أنها مستعدة كذلك للتدسية والتصغير والتحقير، فلا يمكن للعبد أن يسعد في الدنيا والآخرة ولا يمكن أن يحيا حياة طيبة ينتقل بها إلى سعادة أبدية سرمدية إلا بتزكية نفسه، فلا يفلح العبد إلا بتزكية نفسه.
قال عبد الله بن المبارك رحمه الله: إن الصالحين فيما مضى كانت أنفسهم تواتيهم على الخير عفواً، وإن أنفسنا لا تكاد تواتينا، فينبغي علينا أن نكرهها.
النفس جاهلة ظالمة، كما قال عز وجل: {وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} [الأحزاب:٧٢]، والجاهل والظالم لا يعرف مصلحته ولا يعرف ما يعود عليه بالنفع في الدنيا والآخرة، فصلاح النفس في توحيد الله، وصلاح النفس في الاستجابة لأمر الله عز وجل وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم، ولكن النفس الجاهلة لا تأتي معك على ذلك، فينبغي عليك أن تكرهها كما يكره الصبي، وكما يكره المجنون على ما فيه فلاحه، وعلى ما فيه نجاحه.
كذلك فلاح العبد في طاعة الله والطاعات تثقل على النفوس الجاهلة، كما قال عز وجل: {وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ} [البقرة:٤٥]، فيثقل على الجاهلين وعلى الظالمين أن يدخلوا بيت الله، ويثقل على الجاهلين والظالمين أن يقفوا بين يدي الله عز وجل دقائق معدودة في الصلوات الخمس، مع أنهم قد يقفون ساعات طويلة طلباً لربح دنيوي أو شهوة دنيوية، وهذا من جهلهم بمواقع الخير والسعادة في الدنيا والآخرة، فالنفس جاهلة ينبغي على العبد أن يجبرها في بداية الأمر على طاعة الله، وعلى الاستجابة لله عز وجل وللرسول صلى الله عليه وسلم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} [الأنفال:٢٤].
فالشرع حياة للقلوب وحياة للأبدان، والذين لا يهتدون بشرع الله، ولا يؤمنون بدين الله عز وجل أموات غير أحياء، وما يشعرون أيان يبعثون، قبور تتحرك على الأرض: وأرواحهم في وحشة من جسومهم وليس لهم حتى النشور نشور.
فالحياة الحقيقية في طاعة الله عز وجل، والسعادة في طاعة الله عز وجل فينبغي للعبد أن يكره نفسه أولاً على طاعة الله قال بعض السلف: سقت نفسي إلى الله عز وجل وهي تبكي، ثم سقتها بعد ذلك وهي تضحك.
وقال بعضهم: عالجت قيام الليل سنة وتمتعت به عشرين سنة، أي: أنه في السنة الأولى كان يجبر نفسه على قيام الليل ويشق عليه القيام وهو يعالج نفسه ويجبر نفسه على قيام الليل، فلما تعلمت النفس الجاهلة وذاقت حلاوة الطاعات وحلاوة العبادات صار يتمتع بقيام الليل، كما قال بعضهم: أهل الليل في ليلهم ألذ من أهل اللهو في لهوهم، ولولا الليل ما أحببت البقاء في الدنيا، وقال بعضهم: ما بقي من لذات الدنيا إلا ثلاث: قيام الليل، ولقاء الإخوان، وصلاة الجماعة.
وقال بعضهم: منذ أربعين سنة ما أزعجني إلا طلوع الفجر، ونحن في وقت الشتاء والشتاء كما ورد في بعض ا