[ثمرات التقوى في الدنيا]
فدرجة التقوى عباد الله! درجة عالية، وشجرتها من أطيب شجرات الإيمان، فهي لا تثمر ثمرات في الدنيا وحدها، ولكنها تثمر ثمرات طيبة يانعة في الدنيا والآخرة، فيجني العبد المتقي من ثمرات التقوى في الدنيا قبل الآخرة، ويتمتع بنعيم التقوى في الدنيا قبل الآخرة.
فمن ثمرات شجرة التقوى في الدنيا: أن الله عز وجل يجعل للعبد من كل ضيق فرجاً، ويرزقه من حيث لا يدري ولا يحتسب، كما قال الله عز وجل: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ} [الطلاق:٢ - ٣].
من ثمرات التقوى: أن الله يجعل للعبد من أمره يسراً، وييسر للعبد جميع أموره، فمهما قصد أمراً من الأمور أو مصلحة من المصالح يسرت له، كما قال عز وجل: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا} [الطلاق:٤].
من ثمرات التقوى في الدنيا كذلك: أن التقوى هي التأمين الرباني الحلال الذي جعله الله عز وجل لعباده المتقين، ليس بالمتاجرة بعقول الناس وأموالهم، وبمص دماء الناس بدعوى التأمين على الحياة، فالتأمين ربا وقمار، أما التقوى فتأمين رباني شرعه الله عز وجل لمن أراد أن يحفظ الله عز وجل ذريته في الدنيا والآخرة، فقال عز وجل: {وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا} [النساء:٩].
فمن أراد أن يحفظ الله عز وجل ذريته، وأن يبارك له في ذريته فعليه بتقوى الله عز وجل.
كان سعيد بن المسيب يقول لابنه: لأزيدن في صلاتي من أجلك، رجاء أن أحفظ فيك، وتلا قوله عز وجل: {وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا} [الكهف:٨٢].
فانظروا إلى صلاح الآباء وتقواهم كيف يكون سبباً في حفظ الأبناء.
التقوى كذلك عباد الله: سبب لبركات السماء والأرض.
وانظروا عباد الله! كيف يعيش الناس حياة الضنك والضيق، والفقر والشقاء والنقص في كل شيء؛ لأنهم ضيعوا تقوى الله عز وجل، والله عز وجل يقول: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ} [الأعراف:٩٦].
وقال عز وجل: {وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا} [الجن:١٦].
أهل التقوى عباد الله! لهم من الهيبة والشرف والوقار في قلوب الخلق ما يفوق شرف أهل السلطان، كما قال بعض الناس: قتلني حب الشرف -أي: حب الرفعة في الدنيا- فقال له أحد العلماء: لو اتقيت الله شرفت.
وفي ذلك قيل: ألا إنما التقوى هي العز والكرم وحبك للدنيا هو الذل والسقم وليس على عبدٍ تقي نقيصة إذا حقق التقوى وإن حاك أو حجم وانظروا عباد الله! إلى العلماء الأعلام، والأئمة الكرام كيف كان لهم من الهيبة والوقار حتى كانت الملوك تهابهم، فهذا الإمام مالك كان تهابه الملوك، وكان الأمراء يجلسون في مجلسه أذلاء، لا يكلم أحد أحداً، وكان يسأل فيقول: نعم أو لا، ولا يقال له: من أين قلت هذا، وما دليلك على ذاك؟ بل مدحه أحدهم فقال: يدع الجواب ولا يراجع هيبة والسائلون نواكس الأذقانِ نور الوقار وعز سلطان التقى فهو المهيب وليس ذا سلطانِ التقوى عباد الله! سبب للحفظ من كيد الأعداء، كما قال عز وجل: {وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا} [آل عمران:١٢٠].
التقوى كذلك عباد الله! الذرة منها خير من أمثال الجبال عبادة من المغترين، كما قال أبو الدرداء: يا حبذا نوم الأكياس وفطرهم، كيف يغبنون به قيام الحمقى وصومهم، والذرة من صاحب تقوى أفضل من أمثال الجبال عبادة من المغترين.
فمن بلغ درجة التقوى عباد الله! فالذرة الواحدة من أعماله أفضل من أمثال الجبال عبادة من المغترين، وهذا الكلام كما قال ابن القيم رحمه الله من جواهر الكلام الذي يكتب بالذهب والفضة؛ وذلك لأن الأعمال تتفاضل بمقدار ما في قلوب أصحابها من تقوى الله عز وجل، فالرجلان يكونان في صف واحد، وخلف إمام واحد، يكبران بتكبيره، ويسلمان بتسليمه، وبين صلاتيهما كما بين السماء والأرض؛ لأن الأعمال تتفاضل بمقدار ما في قلوب أصحابها من تقوى لله عز وجل.
وقال بعضهم: كم من قائم محروم، وكم من نائم مرحوم، هذا قام وقلبه كان فاجراً، وهذا نام وقلبه كان عامراً.
أي: أن العبد قد يقوم الليل وقلبه يفور بالشهوات، وهو معجب بنفسه، ويمن بعمله على الله عز وجل وعلى عباده، فمن أصبح نائماً وهو نادم خير ممن أصبح قائماً، ثم أصبح يمن على الله عز وجل، فكم من قائم محروم، وكم من نائم مرحوم.
فالعبد المؤمن المتقي إذا نام فإنه ينام على ذكر الله، وينام على طهارة، وينام على جنبه الأيمن، ويستقبل بوجهه القبلة، ويذكر أذكار النوم، وينام على نية صالحة؛ كما قال معاذ