للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[تكرار الرجل المؤمن دعوة قومه إلى الله ووقاية الله له من سيئات مكرهم]

قال تعالى: {وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ * تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ} [غافر:٤١ - ٤٢].

قال الشوكاني: كرر الرجل المؤمن دعاءهم إلى الله، وصرح بإيمانه، ولم يسلك المسالك المتقدمة أنه منهم، وأنه إنما تصدى التذكير كراهة أن يصيبهم بعض ما توعدهم به موسى، كما يقوله الرجل المحب لقومه من التحذير عن الوقوع فيما يخاف عليهم الوقوع فيه، فقال: {وَيَا قَوْمِ} [غافر:٤١] كما قال إبراهيم: {يَا أَبَتِ} [مريم:٤٢]، قال: {وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ} [غافر:٤١]: أخبروني عنكم كيف هذه الحال، أدعوكم إلى النجاة من النار ودخول الجنة بالإيمان بالله وإجابة رسله، وتدعونني إلى النار بما تريدونه مني من الشرك؟ قيل: معنى ((مَا لِي أَدْعُوكُمْ)): ما لكم أدعوكم، كما تقولون: ما لي أراك حزيناً، أي: مالك؟ ثم فسر الدعوتين، فقال: {تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ * لا جَرَمَ أَنَّمَا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا وَلا فِي الآخِرَةِ} [غافر:٤٢ - ٤٣] أي: حق، ووجب بطلان دعوته، قال الزجاج: المعنى: ليس له استجابة دعوة تنفع، وقيل: ليس له دعوة توجب له الإلهية في الدنيا ولا في الآخرة.

وقال الكلبي: ليس له شفاعة، (وأن مردنا) أي: مرجعنا ومصيرنا إلى الله بالموت أولاً وبالبعث آخراً، فيجازي كل أحد بما يستحقه من خير وشر.

{وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ} [غافر:٤٣]، أي: المستهترين بمعاصي الله.

ثم قال: {فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} [غافر:٤٤].

قال الشنقيطي رحمه الله ما ملخصه: التحقيق الذي لاشك فيه: أن هذا الكلام من كلام مؤمن آل فرعون الذي ذكر الله عنه، وليس لموسى فيه دخل، يعني: هذا الكلام قاله مؤمن آل فرعون: ((فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ)) يعني: أنهم يوم القيامة يعلمون صحة ما كان يقول لهم، ويذكرون نصيحته، فيندمون حيث لا ينفع الندم، والآيات الدالة على مثل هذا من أن الكفار تنكشف لهم يوم القيامة حقائق ما كانوا يكذبون به في الدنيا، كقوله تعالى: {وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ * لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} [الأنعام:٦٦ - ٦٧]، يعني: سوف يرون الأشياء التي كذبوا بها لزيادة تبكيتهم وعذابهم، وقال: {وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ} [ص:٨٨]، وقال: {كَلَّا سَيَعْلَمُونَ * ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ} [النبأ:٤ - ٥] إلى غير ذلك من الآيات.

وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: {وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ * فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا} [غافر:٤٤ - ٤٥].

دليل واضح على أن التوكل الصادق على الله وتفويض الأمور إليه؛ سبب للحفظ والوقاية من كل سوء، وقد جاء ذلك في آيات أخر، كقوله تعالى: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق:٣] أي: كافيه.

وقوله تعالى: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ * فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ} [آل عمران:١٧٣ - ١٧٤] فهذا جزاء التوكل، فالإنسان يتوكل ويفوض أمره إلى الله عز وجل، فإذا فعل ذلك فإن الله تعالى يكفيه ويدفع عنه.

والظاهر: أن ما (مكروا) في قوله: (سيئات) مصدرية، أي: فوقاه الله سيئات مكرهم، أي: أضرار مكرهم وشدائده، والمكر يعني: الكيد.

فلا شك أن فرعون يكيد به، يعني: من يقول مثل هذه المقالة الطويلة العظيمة، ويواجه بها أهل الباطل؛ لابد أنهم يكيدون به ويلفقون له التهم والقضايا، والمسلمون تلفق لهم قضايا بغير تهم، من أجل أن يزج بهم خلف الأسوار، أو تستباح دماؤهم، فكيف يقول هذه المقالة الطويلة العظيمة وينصر بها نصراً مؤزراً أمام فرعون ويمكرون به؟ فلا شك أنهم مكروا به، وإن كان القرآن لم يفصح لنا عن طبيعة هذا المكر، ولكن بين الله عز وجل أنه وقاه سيئات ما مكروا.

وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: {