للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[العمل للآخرة لا يعني الإعراض عن الدنيا بالكلية]

قال سبحانه وتعالى: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} [القصص:٧٧].

قال بعضهم: لا تنس نصيبك من الدنيا، أي: من طاعة الله عز وجل، وهذا غاية الوعظ والنصح؛ لأن هذا النصيب الحقيقي من الدنيا، وقال بعضهم: هو من باب الترفق به {وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} [القصص:٧٧] أي: أنك لا تترك زينة الدنيا بالكلية، {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [الأعراف:٣٢] أي: الرزق الحلال والتمتع بالطيبات والمباحات في الدنيا يشترك فيه المؤمنون والكافرون، ولكنه وقف في الآخرة على أهل الإيمان.

وقيل: {وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} [القصص:٧٧] أي: لا تنس أنك لا تنال من الدنيا إلا الزاد والكفن: فانظر إلى من حوى الدنيا بأجمعها هل راح منها بغير الزاد والكفن أي: أن هذا نصيب العبد من الدنيا، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أيكم مال وارثه أحب إليه من ماله؟ قالوا: ما منا من أحد إلا ماله أحب إليه من مال وارثه، قال: فإن الذي ينفقه من ماله وإن الذي يمسكه مال وارثه)، فالعبد قد يجمع الأموال في الدنيا ولا يخرج حق الله عز وجل منها ثم يترك هذا المال بأجمعه لورثته، وورثته إما أن يكونوا من الصالحين فينفقون هذا المال في طاعة رب العالمين، فيجد المال الذي اكتسبه والذي بخل بزكاته والذي بخل بإنفاقه حتى على نفسه يجده في ميزان غيره يوم القيامة، أو يستعين به الورثة على معصية الله عز وجل فيكون قد جمع لهم المال وتركه لهم يعصون به الكبير المتعال.

فهو على كلا الحالتين نادم، ولكن من أنفق ماله في طاعة الله عز وجل فإنه يجد هذا المال موفوراً مدخراً يوم القيامة.

كان بعض السلف إذا أتاه سائل يقول: مرحباً بمن جاء يحمل حسناتي إلى يوم القيامة.

وقال بعضهم: نعم السائلون ينقلون حسناتنا إلى الآخرة بغير أجرة أي: يبدلون هذه العملة إلى حسنات يوم القيامة ولا يأخذون أجراً على ذلك.

وقال عز وجل: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ} [القصص:٧٧]، لما نصحه المؤمنون بأن يبتغي فيما آتاه الله الدار الآخرة وأن يحسن في ماله، ونصحوه بعموم الإحسان في كل شيء {وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ} [القصص:٧٧]، ثم نهوه عن البغي والفساد في الأرض: {وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} [القصص:٧٧].

فكانت نصيحة جامعة مانعة، فـ قارون الذي أعماه ماله {قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي} [القصص:٧٨] أي: أنه ينسب النعمة إلى نفسه، أو يقول: الله عز وجل أعطاني هذه النعمة لعلمه بشرفي وكرامتي ولأني أستحق هذه النعمة، أي: أنه لابد أن يكون كريماً عند الله فيعطيه الله هذه النعمة.

ولذلك قال الله عز وجل: {أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ القُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا} [القصص:٧٨] أي: أن الله عز وجل أهلك من هو أشد قوة منه وأكثر مالاً منه، فلو كان إعطاء المال والنعمة وإعطاء الجاه والسلطان علامة على رضا الله عز وجل، فكيف أهلك الله عز وجل {مِنْ قَبْلِهِ مِنَ القُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا وَلا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ} [القصص:٧٨].

أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.