وهذا موقف رجل من الأنصار، والأنصار أصحاب مواقف إيمانية مدحهم الله عز وجل بالإيمان ووصفهم بقوله:{وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}[الحشر:٩].
تبوءوا دار الهجرة فسبقوا، وكانوا من سكان دار الهجرة، وسبقوا أيضاً إلى الإيمان.
عن جابر بن عبد الله الأنصاري قال:(خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة فغشينا داراً من دور المشركين، فأصبنا امرأة رجل منهم، ثم انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم راجعاً وجاء صاحبها -وكان غائباً- فذكر له مصابه، ثم حلف لا يرجع حتى يهريق في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم دماً، فلما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض الطريق نزل في شعب من الشعاب وقال: من رجلان يكلأاننا في ليلتنا هذه من عدونا؟ قال: فقال رجل من المهاجرين ورجل من الأنصار: نحن نكلؤك يا رسول الله! قال: فخرجا إلى فم الشعب دون العسكر، ثم قال الأنصاري للمهاجري: أتكفيني أول الليل وأكفيك آخره، أو تكفيني آخره وأكفيك أوله؟ قال: فقال له المهاجر: بل اكفني أوله، وأكفيك آخره، فنام المهاجري وقام الأنصاري يصلي، فافتتح سورة من القرآن فبينما هو فيها يقرؤها جاء زوج المرأة، فلما رأى الرجل قائماً عرف أنه ربيئة القوم، فرماه بسهم فوضعه فيه، قال: فنزعه، ثم وضعه وهو قائم يقرأ في السورة التي هو فيها -يعني: سحب السهم ورماه واستمر في الصلاة ولم يتحرك كراهية أن يقطعها- قال: ثم عاد له زوج المرأة فرماه بسهم آخر، فوضعه فيه، قال: فانتزعه وهو قائم يصلي في السورة التي هو فيها، ولم يتحرك؛ كراهية أن يقطعها، ثم عاد له زوج المرأة المرة الثالثة فرماه بسهم فوضعه فيه، قال: فانتزعه فوضعه، ثم ركع وسجد، ثم قال لصاحبه: اقعد فقد أتيت، قال: فجلس المهاجري، فلما رآهما صاحب المرأة هرب وعرف أنه قد نذر به.
قال: وإذا الأنصاري يفوح دماً من رميات صاحب المرأة، قال: فقال له أخوه المهاجري: يغفر الله لك، ألا كنت آذنتني أول ما رماك؟ قال: كنت في سورة من القرآن قد افتتحتها أصلي بها، فكرهت أن أقطعها، وايم الله! لولا أن أضيع ثغراً أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم بحفظه لقطع نفسي قبل أن أقطعها).
فلله در الأنصار أصحاب المواقف الإيمانية، وهم الذين تبوءوا الدار والإيمان، وأي صبر مثل هذا الصبر الجميل؟ وأي مواقف تداني تلك المواقف الإيمانية؟ فرضي الله عن أصحابها، ورفعهم بها، وأعلاهم، وقد فعل، فله الحمد والمنة.